الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق

الأستاذ / عبد الله الزبير عبد الرحمن

أشكال الخطاب الإسلامي إلى أهل الكتاب وغيرهم

والخطاب الدعوي الذي يجب أن ينفتح على أهل الكتاب وغيرهم من أهل الملل الأخرى،يتصور فيه أن يتخذ ثلاثة أشكال من الخطاب الإسلامي: (خطاب القدوة، وخطاب المجادلة، وخطاب المجاهدة) .

أولا: خطاب القدوة

وخطاب القدوة هـو أول خطاب يجب أن يوجه إلى الناس من أصحاب الدعوات وحملة الرسالات ومن اتبعهم بإحسان وخلفهم بإيمان، وإلا فسيبقى الناس في حاجة شديدة لهذا الخطاب، مهما وجه إليهم من خطاب آخر، وإن جمل أو كمل.

ولقد كان النبيون -صلوات الله وسلامه عليهم- قبل أن يقدموا خطاب ربهم للناس، يقدمون لهم أنفسهم -خيرين صالحين راشدين- فيجد الناس فيهم الصدق والأمانة، والبر، والحرص على نفعهم، فيرضون بهم، ويرجون منهم، ويتخذونهم أسوة حسنة.

قال تعالى في رسولنا صلى الله عليه وسلم : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) (الأحزاب: 21) .

وقال في النبيين من قبله، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: ( لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ) (الممتحنة: 6) [ ص: 68 ] بعد أن أخبر سبحانه أنهم صفوة البشر فقال: ( وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ) (ص: 47) .

ولقد فطر الناس على افتقاد القدوة والبحث عن الأسوة، لتكون لهم نبراسا يضيئ سبيل الحق، ومثالا حيا يحتذى به، ويقتدى بفعاله، يبين بحاله كيف يكون المؤمن، وكيف يلتزم؟

ولقد ربى القرآن الكريم دعاة الإسلام من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كيف يعطون القدوة لغير المسلمين، نقدم منها ثلاثة نماذج تبين ما نقصده من إعطاء القدوة:

الرسول صلى الله عليه وسلم يعطي القدوة لغير المسلم

لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه وجميع سلوكه، وحسن تعامله مع الناس، ترجمة صادقة للداعية الموفق، وأسوة حية لمن يرجو التحقق بالقرآن، والتزام تعاليمه وآدابه، وقد اكتمل فيه خلق القرآن، حتى ( قالت عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلقه: كان خلقه القرآن ) [1] .

ولقد جعله الله تعالى قدوة وأسوة للناس، فأعطى من نفسه القدوة في كل شيء، فانتصر لغير المسلم على المسلم، إقامة للحق والعدل، بتوجيه الوحي المعصوم، ونذكر لذلك موقفين من مواقفه الدعوية التي أعطى فيها القدوة لغير المسلم، فأقنع العالمين بأحقية الإسلام في قيادة البشرية. [ ص: 69 ]

الموقف الأول: قصة اليهودي الذي اتهم بسرقة الدرع، وهي: أن رجلا من المسلمين سرق درعا، فلما خاف أن تظهر عليه، رمى بها في دار يهودي، فلما وجدت الدرع أنكر اليهودي أن يكون أخذها، واستعان السارق بقومه على اليهودي، فغلب على ظن النبي صلى الله عليه وسلم أن اليهودي قد سرقها إذ شهد شهود بذلك، ووجدت الدرع في بيته، وهذه كلها قرائن قوية، ولكن القرآن ينزل منتصرا لليهودي على المسلم قائلا: ( إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما ) (النساء: 105) .

وقد أراه الله أن المسلم هـو السارق، وأن اليهودي بريء، فبرأه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

والموقف الثاني: ( أن أبا حدرد رضي الله عنه قال: كان ليهودي علي أربعة دراهم، فاستعدى علي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له: إن لي على هـذا أربعة دراهم، وقد غلبني عليها، قال: أعطه حقه قلت: والذي بعثك بالحق نبيا، ما أصبحت أقدر عليها قال: أعطه حقه، فأعدت عليه. فقال: أعطه حقه، فخرجت معه -أي اليهودي- إلى السوق، وكانت على رأسي عمامة، وعلي بردة متزر بها، فاتزرت بالعمامة، وقال: اشتر البردة، فاشتراها بأربعة دراهم ) [2] . [ ص: 70 ]

وهكذا يقف النبي صلى الله عليه وسلم في صف اليهودي، ينتصر له، وينتزع حقه من المسلم مع عسر تحقيقه على المسلم، ولا تعليق على هـذه المواقف بعد أن كان غير المسلم ممن لم يستجب للدعوة يستعدي رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم على المسلم الذي يتبعه، ويؤمن برسالته، ويحمي دعوته، ويقسم بالحق الذي بعث به.

عمر يعطي القدوة لغير المسلم

ولو استرجعنا أيام خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم الذين تربوا على يديه، نجد أنهم اقتدوا به، واهتدوا بسنته، فتوجوا التاريخ بمواقف يكاد يستحيل حصولها، ويندر وقوعها في تاريخ البشرية.

فعمر بن الخطاب رضي الله عنه يسجل للتاريخ أروع المواقف في إقامة العدل، ويعطي القدوة من نفسه لغير المسلم، فيطمئن هـذا لدين الحق، ويسعد في ظلال شرعه وأحكامه، وحكامه، وإن لم يؤمن بعد.

ضرب ابن لعمرو بن العاص رضي الله عنه وهو وال على مصر ابنا لقبطي من أقباط مصر بالسوط، وهو يقول: أنا ابن الأكرمين. فأتى القبطي عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، يشتكي واليهم عمرو بن العاص، " قال أنس رضي الله عنه : " كنا عند عمر بن الخطاب إذ جاءه رجل من أهل مصر، فقال: يا أمير المؤمنين! هـذا مقام العائذ بك! قال: وما لك؟ قال: أجرى عمرو بن العاص بمصر الخيل، فأقبلت فرسي، فلما رآها الناس قام [ ص: 71 ] محمد بن عمرو فقال: فرسي ورب الكعبة، فلما دنا مني عرفته، فقلت: فرسي ورب الكعبة، فقام إلي يضربني بالسوط، ويقول: خذها وأنا ابن الأكرمين.. فوالله ما زاد عمر على أن قال له: اجلس. ثم كتب إلى عمرو ابن العاص : إذا جاءك كتابي هـذا فأقبل، وأقبل معك بابنك محمد.. وقال للمصري: أقم حتى يأتيك، فدعا عمرو ابنه فقال: أأحدثت حدثا؟ أجنيت جناية؟ قال: لا. قال: فما بال عمر يكتب فيك؟ فقدما على عمر. قال أنس : فوالله إنا عند عمر، إذ نحن بعمرو وقد أقبل في إزار ورداء، فجعل عمر يلتفت هـل يرى ابنه، فإذا هـو خلف أبيه،فقال: أين المصري؟ قال: هـا أنذا، قال دونك الدرة فاضرب بها ابن الأكرمين، فضربه حتى أثخنه ونحن نشتهي أن يضربه، فلم ينزع حتى أحببنا أن ينزع من كثرة ما ضربه، وعمر يقول: اضرب ابن الأكرمين، ثم قال: أجلها على صلعة عمرو، فوالله ما ضربك إلا بفضل سلطانه، قال: يا أمير المؤمنين قد استوفيت واشتفيت، وقد ضربت من ضربني، فقال: أما والله لو ضربته ما حلنا بينك وبينه حتى تكون أنت الذي تدعه، ثم قال عمر: أيا عمرو! متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ فجعل يعتذر ويقول إني لم أشعر بهذا، ثم التفت عمر إلى المصري فقال: انصرف راشدا، فإن رابك ريب فاكتب إلي " [3] . [ ص: 72 ]

ومن العجيب أن كل من حضر هـذا الحادث كان قد وجد في نفسه من فعل ابن عمرو بن العاص ، وكان يحب أن يضربه القبطي المصري كما " يقول أنس رضي الله عنه : " فضربه حتى أثخنه،ونحن نشتهي أن يضربه " ، انتصارا للمظلوم ولو كان من غير المسلمين، وردعا للظالم وعدم الوقوف معه ولو كان من قادة المسلمين.

علي بن أبي طالب يعطي القدوة لغير المسلم

ولقد تابع علي رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر ، يعطي القدوة من نفسه لغير المسلم وهو أمير المؤمنين، ولا ينتصر لنفسه، ولا تأخذه العزة بالسلطان، مما دعا غير المسلم أن ينضم إلى هـذه الأمة راضيا راغبا معلنا إسلامه.

فقد حكى التاريخ روعة موقفه من النصراني الذي أخذ درعه، فاحتكما إلى قاضي المسلمين، فيحكم قاضي المسلمين للنصراني على أمير المؤمنين.

والقصة: " أن عليا رضي الله عنه وجد درعه عند رجل نصراني، فأقبل به إلى شريح (القاضي) يخاصمه، فقال: هـذا الدرع درعي ولم أبع ولم أهب، فقال شريح للنصراني: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟ فقال النصراني: ما الدرع إلا درعي، وما أمير المؤمنين عندي إلا بكاذب. فالتفت شريح إلى علي فقال: يا أمير المؤمنين! هـل من بينة؟ فضحك علي [ ص: 73 ] وقال: أصاب شريح، ما لي بينة، فقضى شريح بالدرع للنصراني، فأخذه النصراني، ومشى خطى، ثم رجع، فقال: أما أنا فأشهد أن هـذه أحكام الأنبياء، أمير المؤمنين يدنيني إلى قاضيه يقضي عليه، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، الدرع والله درعك يا أمير المؤمنين، اتبعت الجيش وأنت منطلق إلى صفين فخرجت من بعيرك الأورق، فقال علي رضي الله عنه : أما إذ أسلمت فهي لك، وحمله على فرس " [4] .

هكذا غزا الإسلام قلب هـذا النصراني، وهكذا غزا الإسلام أواسط أفريقيا وكثيرا من البلاد، بما قدمه المهاجرون لها في أهلها من القدوة الحسنة، والتزام الحق، والدعوة بالحال قبل الجدال والقتال، وقد لا يحتاج الدعاة إلى كثير معاناة وجهد، إذا التزموا الحق، وقدموا الخير الذي أصابهم بأجمل ما يكون، وعلى أحسن حال يرجى، ولكن يا حسرة على المهاجرة إلى بلاد الكفر، يقدمون أسوأ أحوال المتفلت عن الدين، المتحلل عن ملزماته، المتخلي عن آدابه، فيرى غير المسلم المسلم فيسوءه ما يرى، فيدبر ولا يقبل.

فمن الضروري -إذن- أن يبدأ الخطاب لغير المسلم، بتقديم القدوة الحسنة. [ ص: 74 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية