الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
من صور التدرج في التطبيق والتنزيل

باستصحاب ما تقرر من حاجة إعادة البناء، والعودة بالناس إلى حياة الإسلام التي لا يجوز سواها ولا يصلح، وتجديد الدين بمعانيه ولوازمه وأحكامه، نجد أنه لا بد وأن تكون العودة والتجديد على طريقين يلتقيان عند اكتمال العودة والبناء، واللذان يمثلان صور التدرج في حال التطبيق والتنزيل، وهما المرحلية، والاستثناء.

أولا: المرحلية

لقد وقفنا عند بيان التدرج التشريعي، أن أحكام الشريعة أقيمت على مرحلية، يتدرج الشارع في بيانها وتقريرها، على مراحل.

وكذلك يجب أن يكون إنزال هـذه الأحكام في واقع الناس، وعند الاحتكام بها، وإقامة الحياة عليها.

ولقد سلك الشرع في تحريم الخمر على العباد -كما أسلفنا- هـذه [ ص: 139 ] الصورة، في كل مرحلة ينتقل بهم إلى حكم أقرب إلى التحريم، حتى إذا ما نطق بالتحريم الجازم رضي المسلمون، وقد كانوا تهيئوا لذلك ينتظرون الفصل في حكمه.

وإذا كان تدرج الشارع مرحليا في تحريم الخمر؛ لأن نفوس العباد يشق عليها التخلي من أول نهي، فإن المرحلية يتدرج عليها الشرع في سن أمور وإيجابها -كذلك- نظرا لحال العباد من الاستطاعة والقدرة والقوة والضعف، كما كان الحال في تشريع الجهاد وفرض القتال على المسلمين، فلم يكن القتال من أول الإسلام واجبا مفروضا على الأمة، بل كان القتال في العهد المكي من الدعوة خيارا مستبعدا، وأمرا محظورا لا يجوز للمسلمين أن يقاتلوا أعداءهم حتى للدفاع عن النفس، على الرغم من شدة الاعتداء عليهم والإيذاء لهم، ولقد أمرهم القرآن أن لا يقاتلوا، وأن يصفحوا، ويعفوا، ويغفروا، ويصبروا، ويهجروا هـجرا جميلا، لا عداء فيه ولا قتال،

فقال تعالى لرسوله وللمؤمنين: ( قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجون أيام الله ) (الجاثية: 14) ..

وقال: ( فاصفح عنهم وقل سلام فسوف يعلمون ) (الزخرف: 89) ..

وقال: ( واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا ) (الطور: 48) ..

وقال: ( واصبر على ما يقولون واهجرهم هـجرا جميلا ) (المزمل: 10) . [ ص: 140 ]

وكل الذي أمروا به في الفترة المكية، أن يجاهدوا جهاد الحجة والبيان واللسان بالقرآن، كما قال تعالى: ( وجاهدهم به جهادا كبيرا ) (الفرقان: 52) .

هذا مع أن الجهاد القتالي سيكون واجبا بعد أن كان محرما، ولعل في تحريم القتال في مرحلة الدعوة المكية والأمر بالكف عنه، حكما ظاهرة، وأسبابا جعلت الكف عن القتال في هـذه المرحلة هـو الخيار الأوحد، والأنسب مع حال الجماعة وظروف المجتمع، وواقع الحياة القرشية.

- فلعل تحريم القتال في الفترة المكية، يرجع إلى أسباب تربوية:

ليتربى الفرد العربي المسلم على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة، من الضيم يقع على شخصه أو على من يلوذون به، ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محورا للحياة في نظره.

وليتربي كذلك على ضبط أعصابه، فلا يندفع لأول مؤثر -كما هـي طبيعته- ولا يهتاج لأول مهيج، ليتم الاعتدال في طبيعته وحركته.

وليتربى أيضا على أن يتبع مجتمعا منظما، له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره -مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته- فينشأ بذلك المجتمع الإسلامي الخاضع لقيادة موجهة، غير الهمجي أو القبلي. [ ص: 141 ]

- وقد يرجع تحريم القتال في الفترة المكية إلى أسباب اجتماعية:

لئلا تنشأ داخل كل بيت في مكة معركة ومقتلة، إذ لم تكن هـناك سلطة نظامية عامة، هـي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم، وإنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد، يعذبونه هـم، ويفتنونه، ومعنى الإذن بالقتال في مثل هـذه البيئة أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت، وليس في هـذا مصلحة للدعوة ولا للإسلام ولا للبشرية.

- ولعل تحريم القتال في الفترة المكية، يرجع إلى أسباب دعوية:

لأن الدعوة السلمية أشد أثرا وأنفذ في مثل بيئة قريش ، ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها -في مثل هـذه الفترة- إلى زيادة العناد وإلى نشأة ثارات دموية جديدة، كثارات حروب داحس والغبراء وحرب البسوس ، التي تفانت فيها قبائل برمتها، وتكون هـذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام، فلا تهدأ بعد ذلك أبدا، ويتحول الإسلام من دعوة إلى ثارات ودحول تنسى معها فكرته الأساسية.

وربما لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم،ويعذبونهم ويؤذونهم، هـم بأنفسهم سيكونون من جند الإسلام المخلص، بل من قادته، كعمر بن الخطاب وأبي سفيان وخالد بن الوليد وغيرهم رضي الله عنهم . [ ص: 142 ]

ولعل ذلك كان عائدا إلى أسباب تخص حالة الجماعة المسلمة في تلك المرحلة من: " قلة عدد المسلمين حينذاك، وانحصارهم في مكة ، حيث لم تبلغ الدعوة إلى بقية الجزيرة العربية، وحيث كانت القبائل تقف على الحياد من معركة داخلية بين قريش وبعض أبنائها، ففي هـذه الحالة قد تنتهي المعركة المحدودة إلى استئصال المجموعة المسلمة القليلة، فتنمحي الجماعة ويبقى الشرك، ولم يقم في الأرض بعد للإسلام نظام ولا وجد له كيان، وهو دين جاء ليكون نظاما واقعيا ومنهجا للحياة " [1] .

لهذه الحكم ولغيرها، كان الجهاد القتالي في مرحلة الدعوة المكية محرما محظورا، فلما تغيرت تلك الأسباب والعلل، تغير حكم القتال، في كل مرحلة بما يناسبها من تشريع.

تحديد المراحل وتوصيفها

استطاع عدد ممن كتب في فقه الدعوة، واستقرأ أدوارها ومسارها، أن يحددوا مراحل لها تتمايز عن بعضها وتتكامل، فمنهم من قسمها إلى مرحلة التبين، ومرحلة التكوين، ومرحلة التمكين.. ومنهم من جعلها في مرحلتي: الكتمان والإعلان،أو مرحلة الدعوة السرية [ ص: 143 ] والجهرية.. وبعضهم فرقها بين مرحلة الاستضعاف ومرحلة الاستخلاف.. وكلها موفقة بإذن الله، تعبر بصدق عن نفسها، تزيد من التوفيق والهداية والنجاح، وتقلل من الأعطاب والأخطاء، وتنفي عن الدعاة التلقائية والعشوائية، مما لا ينبغي ولا يليق.

ويمكن الاكتفاء هـنا ببعض الإشارات الموجزة، نصف بها مرحلتين هـامتين هـما مرحلة التكوين، ومرحلة الاستضعاف.

* مرحلة التكوين

أما في مرحلة التكوين، فيكون التركيز على خطاب القلوب، وتربية الوجدان، وإعداد الدعاة المبلغين إعدادا يضمن به الثبات والاستمرار والبقاء، لإكمال المسار في التطبيق والتنزيل.. ولقد ربى محمدا ربه طويلا، يكون فيه شخصية المسلم الداعية القائد، فلا يتزلزل لأعصى المواقف، ولا تزل قدم بعد ثبوتها.

ولا يغيب عن دارس للسيرة كيف أدار الرسول صلى الله عليه وسلم برشاد معركة بناء الرجال، وإعداد الأكفاء للصف الأول، تنشئة وتربية وتعليما، سنوات متتابعة حتى أخرج للعالمين جيلا فذا لم يتثن بعد.

وفي مرحلة التكوين -أيضا- قد تنقلب الأهداف إلى وسائل، [ ص: 144 ] والوسائل أهدافا، إذ تعنى هـذه المرحلة بالتعبئة والتربية والتوجيه والتعليم، ولا شك أن المسلم يجب أن يعي دوره في الجهاد الأبدي، الذي لا ينقطع ما دام الصراع بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية.. ولكن قد تصيبه الفترة، فيغيب مفهومه وفقهه عن ذهن المسلم، ويضعف تعلق قلبه به، فيخشى عند حالات المواجهة القعود والتقاعس والانصراف، فيكون لذلك من هـدف الدعوة في هـذه المرحلة: التعبئة للجهاد، والدعوة إليه، بتكوين الروح المتطلعة للاستشهاد في سبيل الله.. فلما كان الجهاد في الأصل وسيلة لإحقاق الحق، ونصرة الشرع، وحماية الدعوة، صار في هـذه المرحلة هـدفا، تتخذ إلى غرس مفاهيمه والترغيب إليه الوسائل، وتتركز عليه الدعوة والتربية.

* مرحلة الاستضعاف

وقد تعتري مرحلة الاستضعاف أمور لا تعتري سواها من مراحل التمكين والاستخلاف،وذلك أن المسلم في حال الاستضعاف يفتقر إلى ما يبقيه ويقويه، ويحتاج إلى كل ما يعضد موقفه، ويبقي مهجته لتبقى الدعوة، وعندئذ لا شك أن يعرض له ما لا يقدر على تجاوزه إلا بشيء من التنازلات، التي لا تؤثر في حقيقة الإيمان، وتسمح له بشيء من التقدم في طريق الدعوة، ألم تر إلى القرآن كيف يهدي المؤمن في حال [ ص: 145 ] الاستضعاف والإكراه أن يلفظ بكلمة الكفر -بلا حرج- إن لم تقدح في حقيقة إيمانه، فيعفيه من غضب الله وعذابه، فيقول سبحانه وتعالى : ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم ) (النحل: 106) .

فقد يضطر الدعاة -بعد تقدير للموقف، وموازنة للمصالح والمفاسد، اجتهادا على خلاف الأصل- إلى التعامل مع بعض الطغاة، لئلا تستأصل الدعوة وتبيد بدعاتها، أو تخفيفا لوطأة الظلم على أفراد الأمة، ولقد رضي الله عن نبيه يوسف عليه السلام -ولم ينكر- أن يشارك الحاكم الجاهلي ليرفع الظلم، أو يخفف وطأته، أو يشيع قسطا من العدل، أو يجد سانحة دعاية للحق، وربما يلجأ المسلم في بعض هـذه الأحوال إلى إقراره على ما يرتكبه من معاص، عاجزا عن إنكارها باليد واللسان، وقد ينفذ بعض تصرفات الطغاة ويجريها لضرورة الدعوة، لا إقرارا للذنب والمعصية رضى بها، أو إرضاء للطاغية، ولكن دفعا للمفسدة العظمى بالصغرى، والضرر الأشد بالأخف.

ولعل العز بن عبد السلام رحمه الله، أشار في قواعده إلى هـذا المعنى حين قال: " وقد ينفذ التصرف العام من غير ولاية، كما في تصرف الأئمة البغاة، فإنه ينفذ مع القطع بأنه لا ولاية لهم، وإنما تنفذ تصرفاتهم [ ص: 146 ] وتوليتهم لضرورة الرعايا، وإذا نفذ ذلك مع ندرة البغي، فأولى أن ينفذ تصرف الولاة والأئمة مع غلبة الفجور عليهم، وإنه لا انفكاك للناس عنهم " [2] .

ويقول في موضع آخر: " التقرير على المعاصي كلها مفسدة، لكن يجوز التقرير عليها عند العجز عن إنكارها باليد واللسان.. " [3] .

فهو يرى -رحمه الله - أن الحاكم الباغي لا ولاية له أصلا، مع ذلك يرى أن تنفذ تصرفاته لضرورة الرعايا، فمن باب أولى لضرورة الدعوة.

كما أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، يشير إلى جنس المعنى، لما أراد أن يجمع بين ما سار عليه المسلمون من موافقة اليهود في بعض مظاهرهم العبادية -في أول الأمر- وبين النهي عن موافقتهم والأمر بمخالفتهم بعد التمكين والاستخلاف، فقال: " المخالفة لهم لا تكون إلا عند ظهور الدين وعلوه، كالجهاد وإلزامهم بالجزية والصغار، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء، لم يشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا، شرع ذلك، ومثل ذلك اليوم، لو أن المسلم بدار حرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأمورا بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر، لما عليه في ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم [ ص: 147 ] أحيانا في هـديهم الظاهر، إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمرهم، لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة.. أما في دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية، ففيها شرعت المخالفة.. " [4] .

وهذا من قبيل ما روته ( عائشة رضي الله عنه ، أن رجلا استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ائذنوا له، فبئس ابن العشيرة -أو فبئس أخو العشيرة- فلما دخل ألان له الكلام، فقلت له: يا رسول الله! قلت ما قلت، ثم ألنت له في القول. فقال: أي عائشة! إن شر الناس منزلة عند الله، من تركه -أو ودعه- الناس اتقاء فحشه ) [5] .. وفي رواية مسروق : ( قالت عائشة: فرأيته أقبل عليه بوجهه كأن له عنده منزلة ) [6] .

وهو من جنس ما كان " يقوله أبو الدرداء : إنا لنكشر [7] في وجوه أقوام ونضحك إليهم، وقلوبنا تلعنهم " [8] . [ ص: 148 ]

وقد يجد المسلمون أنفسهم في حالات الاستضعاف ونزول المحن، مرغمين على ارتكاب ما أصله التحريم، فتحا للذريعة، كأن يعطوا الكفار ما لا يجوز لهم في الأصل، وقد أفتى الإمامان الكبيران الشافعي والأوزاعي رحمهما الله،بنوع من ذلك، حيث قالا: " لا يعطي المسلمون الكفار شيئا، إلا أن يخافوا أن يصطلموا،لكثرة العدو وقلتهم، أو لمحنة نزلت بهم " [9] .

وربما يترخص الدعاة في مرحلة الاستضعاف واشتداد المحن في بعض شعائر الإسلام الظاهرة، وإخفاء بعض السنن والرواتب، والكتمان ببعض العبادات الزائدة عن الممارسات العادية مما لا يلفت الأنظار، ومعلوم كيف كان المسلمون في أول الأمر في مكة يخفون دينهم ويسترون شعائرهم، حتى لا ينالهم العذاب وتنالهم الفتنة.

وفي صحيح مسلم ( عن حذيفة قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أحصوا لي كم تلفظ الإسلام، فقلنا: يا رسول الله! أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟ قال: إنكم لا تدرون، لعلكم أن تبتلوا، قال حذيفة: فابتلينا، حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سرا ) [10] . [ ص: 149 ]

وربما يشتد على نفس البعض جواز الترخص في حالات المحن والاستضعاف، ولكن من المستقرأ المقطوع في الشرع أن الضرورات تبيح المحظورات ، حتى المحظورات المتفق عليها. وفقه مرحلة الاستضعاف، والتفريق بينها وبين حال الاستخلاف للمسلمين، يجعل المرء ينظر فيما تدرج فيه الشرع، فيفرق بين المنسوخ من المراحل وغير المنسوخ منها، بمعنى أن المسلمين ربما تمر بهم حالات تماثل وتطابق الحالات التي تدرج فيها الشرع، فجعلها البعض ناسخا ومنسوخا، فإذا وقع للمسلمين ذات الحالات أو مثلها، تطلب ذلك السير بهم بذات التدرج، وعندئذ يكون من الواجب التفريق بين الذي نسخ والذي لم ينسخ، ويصح بناء الأحكام عليه. إن فقه مرحلة الاستضعاف، يستدعي النظر في كل ما يقال إنه ناسخ ومنسوخ، فلعل بعضها لم يكن منسوخا بقدر ما هـو تدرج على مراحل، يصلح تطبيقه والأخذ به في كل عصر وزمان يتطابق الحال.

ثانيا: الاستثناء

يلاحظ من أمعن النظر في طريقة الشارع في بناء الأحكام، ومن استقرأ قواعد التشريع وأصوله، ووقف على طرائق الفقهاء في تقرير تلك الأحكام، أن لكل قاعدة مستثنيات تبعد عن اشتمال القاعدة لها، [ ص: 150 ] وتخرج عن مفرداتها، ولا تندرج تحت أحكامها، ولا يجري عليها منطوقها عند إيقاعها وإنزالها في واقع الناس.

هذا الاستثناء لا يكاد يفارق قاعدة من القواعد [11] ، لا سيما عند التطبيق والتنزيل؛ لأن ظروف التنزيل لا تطابق التنظير، وما أكثر المعترضات من الأحوال والأسباب والبيئات، ولا يمكن أن تبقى الأحكام فوق التطبيق، ولا يمكن للقواعد أن تتربع في الأذهان مجردة عن التنزيل في أرض الناس.. إذن لا بد من إنزالها جميعا وتطبيقها، وعندئذ يجد الدعاة والفقهاء استحالة، أو عسرا ومشقة، تجلب لهم النظر في تيسير الأمر، باتخاذ نوع من الإجراءات الشرعية المؤقتة، مما يضمن لهم سلامة التطبيق لأحكام الدين.. هـذا النوع من الإجراء هـو الاستثناء.

فيراد بالاستثناء إذن: ما يعتري إنزال الأحكام في الواقع من إجراءات مؤقتة، تعفي بعض الأفراد أو الأماكن من تطبيقها عليهم.. أو يقصد به إسقاط تطبيق الحكم الشرعي في حق عينة من عينات الأفراد أو الحالات [12] . [ ص: 151 ]

هذا الإعفاء أو الإسقاط، ليس هـو الأصل الذي يجب أن يكون عليه الحال باستمرار، ولكنه أمر إجرائي مؤقت يهدف إلى التدرج بهذه الفئة أو العينة، أو التدرج بأهل المكان المعين، حتى يرقى حالهم إلى قبول الالتزام، والإقبال على تكاليف الإسلام، عندها يتوقف هـذا الإجراء، ويدخل من استثني في أفواج المكلفين، فلا يبقى إعفاء بعدئذ ولا إسقاط، إذ كانا لتفادي الضرورة التي قامت، أو لدفع الحاجة التي اعترضت تطبيق الأحكام فيهم، فلما انتفت الضرورة، أو زالت الحاجة لهذا الإجراء، سقط؛ لأن الضرورات والحاجات تقدران بقدرهما. وليكن التمثيل والتفصيل لهذا الإجراء من خلال الأنواع التي يمكن فيها الاستثناء، وهي: استثناء الحالات، واستثناء الأفراد، واستثناء الجماعات، واستثناء الأقاليم.

1- استثناء الحالات

قد يجد الدعاة عند تنزيل الأحكام موانع تقف دون هـذا التنزيل، وحالات تحول دون تطبيق تلك الأحكام، تجاوزها يسبب انتكاسات وأضرارا لا قبل للدعاة بمواجهتها، توخر المسير، بل قد تعطله تماما.. والتغافل عنها يضر أكثر مما ينفع، ويسيء للدعوة بلا مقابل من إحسان غالب. فلا مناص للفقهاء أن يتدبروا هـذه الحالات، يجرون عليها ما تقرر من استثناء يناسبها حتى يتجاوزوا تلك الأوضاع. [ ص: 152 ]

وربما كان النظر المسبب لاستثناء الحالات هـو توقع الفتنة في الدين، وربما كان النظر للضرورة الحائلة دون بقاء الحكم في حق من تلبست به.

أما الاستثناء لتوقع الفتنة في الدين: فكما هـدى الشرع إلى عدم إقامة الحدود في حالة الحرب بدارها، لئلا تضعف التدين في قلب متعدي الحد، فيلحق بالكفار أو يدعمهم بنوع دعم ولو بالهم.. وإقامة الحدود إنما شرعت لتطهير القلوب والنفوس من متعلقات الشيطان، فإن ظن تمكين الشيطان بذلك فلا يشرع.

ولقد نهى الإسلام عن إقامة الحدود في الغزوات، ( فقال صلى الله عليه وسلم : لا تقطع الأيدي في الغزو ) [13] ، فرأى العلماء أن لا يقام الحد في الغزو بحضرة العدو، فإذا خرج الإمام من أرض الحرب، ورجع إلى دار الإسلام أقام الحد على من أصابه، " وكتب عمر بن الخطاب إلى الناس: أن لا يجلدن أمير جيش، ولا سرية، ولا رجل من المسلمين حدا، وهو غاز حتى يقطع الدرب قافلا، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار " [14] . [ ص: 153 ]

" وقال علقمة : كنا في جيش في أرض الروم ، ومعنا حذيفة بن اليمان ، وعلينا الوليد بن عقبة ، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم؟ " [15] .

وسـره على ما بينه عمر بن الخطاب وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهما ، أمران:

1- ألا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار.

2- ولأنه كثيرا ما يفضي إلى اختلاف بين الناس، وذلك يخل بمصلحتهم.

أما الاستثناء لضرورة تحول دون إبقاء الحكم، فكما هـدى الله عمر ابن الخطاب رضي الله عنه في عام الرمادة من إسقاط الحد على من سرق للجوع والفاقة، وهي شبهة -لا شك- تدرأ هـذا الحد وتستثني أصحابها من قطع الأيدي؛ لأن الحالة تستوجب ذلك، وضرورة إبقاء النفس والحفاظ عليها أكبر وأقوى من ضرر أخذ مال الغير.

2- استثناء الأفراد

ربما يضطر الدعاة إلى قبول بعض من يقدمون إلى الإسلام -رغبة وحبا- بعلاتهم وأمراضهم ومعاصيهم، ولا يقدرون على ردهم، إذ [ ص: 154 ] لا يسوغ لهم الشرع رد أمثالهم، ولا يجوز لهم أن يصدوا عن سبيل الله من رغب في الإسلام وإن كانت به شوائب، وإن جاء تحيطه الذنوب والمعاصي، وإن أتى تثقله الآثام، وقد تعلق ببعضها حبا وشغفا، يظن أنه لا يقدر على الفكاك منه، ويشعر أنه لا يستطيع أن ينتزع نفسه من أسره، بل يزين له الشيطان أنه لا يحب أصلا أن يترك هـذه المعاصي، وأنه رغبة وطواعية واختيارا، وحبا وعشقا وتعلقا بهذه المعاصي، يريد البقاء عليها ومداومتها، وإدمانها.

فكيف يصنع أهل الإسلام من الدعاة والفقهاء معه؟

لا مجال للتردد في قبوله بكل هـذه العلات والأمراض، ولا مناص للدعاة من الترحيب به والإقبال عليه، والحرص على إسلامه وهدايته، ولعل البعض خشية من أن يقال له في ذلك، وتؤاخذه فئات تقلل من شأن دعوته، يأبى أن يقبل هـذا القادم الجديد الذي يطلب الانتماء إلى دين الحق، والانضمام إلى الأمة.

وهذا لا يجوز؛ لأن من جاء مسلما يعصي الله تعالى لا يرد إلى الكفر يقال له: ارجع واكفر، وبعد أن تترك الذنب وتتخلى عن المعصية عد!! لا يقول ذلك عاقل فقيه، لا سيما إذا كان القادم الجديد يرجى من إسلامه إسلام من وراءه، أو يظن في إسلامه القوة والعضد، كحاكم كافر [ ص: 155 ] يدمن الخمر، ولا يرى في نفسه قوة تمكنه من الإقلاع عنها، فيرغب في الإسلام، ولكنه يشترط على الناس أن يبقى شاربا للخمر.

فهذا يجب أن لا يتردد الدعاة في الترحيب به، وقبوله مسلما، وليس من خيار إلا لأحد أمرين:

- إما أن لا يقبل شرطه، ويرده عن الإسلام إلى الكفر، وهذا دعوة إلى الكفر.

- وإما أن يقبل شرطه، فيسلم، ولا يقام عليه حد الشرب -استثناء- حتى يتدرج به، فيعلم، ويربى، ويزكى، فيستقيم أمره، وبعدئذ قد لا نحتاج إلى أن يحد.

وهذا هـو الحق المبين، الذي لا يجوز غيره أبدا.

3- استثناء الجماعات

وقد يرى أهل البلاغ في مرحلة من مراحل الدعوة: أن من الضروري جدا استثناء فئة من فئات الناس في بعض ملزمات الدين وأوامر الشرع، تدرجا بهم إلى الالتزام وحسن الإسلام، فإن بعض من يدخل الإسلام تأخذه الأنفة في أول الأمر، ولعل في بعضهم نخوة الامتناع فيتأبى على كل الإسلام، فإن ظنبهم الدعاة حدوث الالتزام المطلوب بعد حين، لا يترددون في قبول ما أرادوا، وإن دعا الأمر إلى قبول أدنى الالتزام حينئذ. [ ص: 156 ]

وهذا الذي كان أمر ثقيف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هـجرته إليهم وردهم له أسوأ رد، أن فيهم نخوة الامتناع، وهي التي دعتهم إلى قتل عروة بن مسعود رضي الله عنه ، وكان أحب إليهم من أبكارهم وأبصارهم وكان فيهم محببا مطاعا، ومع ذلك لما أظهر لهم دينه رموه بالنبل من كل وجه حتى قتلوه.

فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أنزلهم المسجد، ليكون أرق لقلوبهم، فاشترطوا على الإسلام خمسة أمور، هـي:

1- أن لا يكسروا أصنامهم بأيديهم.

2- أن لا يحشروا، أي ينتدبوا، إلى الجهاد والمغازي.

3- أن لا يعشروا ولا يجبوا، أي الزكاة والصدقة.

4- أن لا يستعمل عليهم غيرهم.

5- أن لا يصلوا.

فوافق النبي صلى الله عليه وسلم على الشروط الأربعة الأولى، وقبل منهم أدنى الالتزام وهو الصلاة، ( يقول لهم: لكم أن لا تحشروا ولا تعشروا ولا يستعمل عليكم غيركم، ولا خير في دين لا ركوع فيه ) [16] . [ ص: 157 ]

وفي رواية: ( أما كسر أصنامكم بأيديكم فسنعفيكم من ذلك، وأما الصلاة فلا خير في دين لا صلاة فيه ) [17] .

ولما قيل له في ذلك أجاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( بقوله: سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا ) [18] .

وهذا يوضح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقرهم على ما اشترطوا؛ لأن الإسلام يسقط التكاليف عن البعض دون البعض، ولكنه استثنى أهل ثقيف دون غيرهم في ذلك، تأليفا لهم، وتدرجا بهم إلى الاستقامة، وقد نبه إلى ذلك ( بقوله صلى الله عليه وسلم : سيتصدقون ويجاهدون إذا أسلموا ) .. وهذا فقه عظيم يحتاج إليه الدعاة في كل عصر وزمان.

4- استثناء الأقاليم

وهذا الأخير من صور الاستثناء الذي يقع تدرجا حتى يستوي من ناله على الجادة،ويستقيم على الحق، ويوصد أبواب الشرك والكفران بمغالق الإيمان، وحينئذ فلا استثناء في حقه ولا تدرج.

إلا أن هـذا النوع من الاستثناء، هـو أكبر إجراء يتخذ، إذ يقع على الأماكن لا الأشخاص، وعلى الأقاليم لا الأفراد، وإن كان فيها بعض من [ ص: 158 ] لا يستوجب حاله رعايته، ولكن الإجراء يشمله، فيكون أمر الدين العام خاصا بشخصه لا يلزم العامة.

هذا الاستثناء يظهر قبوله شاقا على الكثيرين، ولكنه كان ميسورا على السلف ممن سار بأمر الله إلى المشرقين، فما كان الصحابة رضوان الله عليهم يفتحون بلدا فيلزمون أهله بأوامر الشرع من أول خطاب، وإنما كانوا يخلون بينهم وبين عباداتهم وأعرافهم وأحكامهم وشرائعهم، ولم يعرف في تاريخ الدعوة الراشدة أن الصحابة رضي الله عنهم أجبروا أهل أي بلد على شرائع الإسلام، وإنما المنقول عنهم أنهم استثنوا أهل هـذه البلاد عنها، تدرجا لا إسقاطا للتكاليف، لعلهم إذا أحبوا الإسلام أقبلوا عليه فيلزموا بتكاليفه وأحكامه.

ففي كتاب عمر لأهل أيليا (أي بيت المقدس) سنة 15 هـ.

" بسم الله الرحمن الرحيم، هـذا ما أعطي عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل أيليا من الأمان: أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، إنه لا تسكن كنائسهم، ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيزها، ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم " [19] . [ ص: 159 ]

وفي كتاب سويد بن مقرن رضي الله عنه لأهل جرجان سنة 18هـ: " ولهم الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم " [20] .

وفي كتاب عتبة بن فرقد لأهل آذربيجان سنة 18هـ: " هذا ما أعطى عتبة بن فرقد عامل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل آذربيجان: سهلها وجبلها وحواشيها وشفارها وأهل مللها كلهم، الأمان على أنفسهم وأموالهم ومللهم وشرائعهم " [21] .

وفي كتاب النعمان بن مقرن لأهل ماه بهراذان (سنة 19هـ) : " أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأراضيهم، لا يغيرون عن ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم " [22] .

وفي كتاب حذيفة بن اليمان لأهل ماه دينار:

" بسم الله الرحمن الرحيم، هـذا ما أعطى حذيفة بن اليمان أهل ماه دينار أعطاهم الأمان على أنفسهم وأموالهم وأرضيهم، لا يغيرون عن ملة، ولا يحال بينهم وبين شرائعهم " [23] .

وكاتب خالد بن الوليد -على عهد أبي بكر رضي الله عنهم - بلاد عانات وأهل النقيب والكوائل وقرقسيا : " على أن لا يهدم لهم بيعة [ ص: 160 ] ولا كنيسة، وعلى أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار، إلا في أوقات الصلوات، وعلى أن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم " [24] .

وهذه الأقاليم جميعها دخلت الإسلام رغبة واختيارا واقتناعا كما يعلم الناس.

فكل هـذه الوثائق على عهد الصحابة رضوان الله عليهم، ترشد الدعاة إلى هـذا النوع من الاستثناء، وقد سندهم القرآن بتوجيهه،

حيث قال تعالى: ( أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين ) (يونس: 99) ..

وقال سبحانه: ( لا إكراه في الدين ) (البقرة: 256) ..

والأمة مجمعة على أنه لا يكره أحد على اختيار الإسلام.

ولا يعني استثناء الأقاليم عن بعض أحكام الشريعة، أن يتركوا سدى، أو أن يقروا على ما هـم عليه من جاهلية وضلال، بل الواجب الذي لا يجوز أن يغيب عن ذهن الدعاة، أن البلاغ يجب أن يستمر، وأن الدعوة يجب أن تنتشر وتتضاعف إحسانا ومعاشرة ومجادلة ومجاهدة، فإن الاستثناء فقه تدرجي يأخذ بأيدي هـذه الفئات، يسوقها إلى حيث الهداية درجة درجة، وخطوة خطوة، حتى يستولي الإسلام على كل قلب وعقل، وبيت ودار، وعندئذ يرتفع الاستثناء لتنزل أحكام الشرع. [ ص: 161 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية