الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق

الأستاذ / عبد الله الزبير عبد الرحمن

المرتكز الثالث: التدرج في التبليغ والتطبيق

التدرج سنة شرعية وطبيعية

من الضرورات الدعوية: الارتكاز على التدرج في التبليغ والتطبيق.

وكل من وقف على طريقة الشارع في التشريع، واستقرأ منهجه في التبليغ، وتدبر مسالكه في إنزال الأحكام، يتأكد له أن التدرج سنة من سنن الشريعة والطبيعة.

حتى في الخلق، يعلمنا الخالق البارئ، كيف نتدرج، مع قدرته المطلقة في إيجاد الأشياء والأحياء والخلائق كيف شاء وكيف أراد، ولكنه مع ذلك يريد تنبيهنا، ويقصد إلى لفت أنظارنا وأفكارنا إلى سنة التدرج، حتى نتقن التبليغ، ونحكم التطبيق.

يتدرج الخالق القدير على الإنشاء والتكوين، دونما عناء أو تعب، ودونما حاجة إلى تخطيط أو تفكير، ولا إلى وقت أو زمن، يتدرج في خلق السماوات والأرض، ويتدرج في خلق الإنسان، وفي كل ذلك تنبيه للدعاة والمصلحين، أنه ما من بناء لا يرعى فيه التدرج، ولا ينشأ على خطوات ومراحل، إلا انهد على أهله، وانهدم على صاحبه. [ ص: 117 ]

يتدرج الله في خلق السماوات والأرض، فخلق الأرض في يومين، ثم قدر أقواتها في يومين آخرين، وبعد ذلك قضى السماوات السبع في يومين، متدرجا في خلق السماوات والأرض في ستة أيام، آية لمن أراد أن يذكر ويتدبر.

( قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين * وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين * ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين * فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها ) (فصلت: 9- 12) .

ويتدرج في خلق الإنسان، فيخلقه شيئا فشيئا على مراحل وأزمان، يخلقه نطفة، ثم يجعله علقة، ثم يجعله مضغة، ثم يدعه في الأرحام ما يشاء، حتى إذا أكمل خلقه، وأتم أطرافه وأعضاءه، أخرجه طفلا، وهكذا ليعلم أهل الدعوة أن الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء يتدرج في الخلق والإنشاء والتكوين، وأنهم أولى به اتباعا، وله اتخاذا،وعليه ارتكازا:

( يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ) (الحج: 5) . [ ص: 118 ]

فالله سبحانه يقص علينا كيف قد تدرج، وأنه ما أراد بذلك إلا البيان والتعليم، فقال: ( لنبين لكم ) ، ويسوق الخبر، يفصل كل مرحلة قضاها الخلق بالحرف: " ثم " الذي هـو للتراخي والفصل.

الحكمة قاضية بالتدرج

فالحكمة قاضية بالتدرج وصولا للمطلوب؛ لأن الطبائع لا تقبل التكاليف جملة واحدة، ولا تتخلى عن عاداتها ومألوفها دفعة واحدة، ولا تقلع عما ترسخ وتوطن هـكذا فورا، وإنما يروض الناس على قبول التكاليف ترويضا، ويفطموا عن عاداتهم شيئا فشيئا، حتى يتخلوا عنها ويقلعوا.

فما من داعية يريد أن يعيد أمر الله في أمته ودولته بعد هـذه الغيبة، ويتبع غير سبيل التدرج إلا خاب وخسر؛ لأن ما انهدم على عدة سنين، لا يمكن أن يتم بناؤه خلال أيام أو أعوام، ولأن ما غاب قرنا من الزمان لا يمكن إعادته في أسابيع، مهما امتلأ غيرة وحماسا، إذ لا يفيد الحماس من لا يفقه الدعوة ولا يرتكز على التدرج، وقد مثل المتحمسين عبد الملك ابن الداعية الفقيه أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز ، يرى أباه وقد مكنه الله الأرض، ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، يأتي أباه رافضا الواقع المتخلي عن الدين في كثير من جوانبه، فيستنكر على أبيه سكوته، يدعوه ألا يخشى في الله لومة لائم، وإن غلت به القدور، أو فار [ ص: 119 ] به التنور، يقول له: " ما يمنعك أن تمضي لما تريده من العدل؟ فو الله ما كنت أبالي لو غلت بي وبك القدور في ذلك فيجيبه الأب الداعية الفقيه: يا بني إنما أروض الناس رياضة الصعب، إني أريد أن أحيي الأمر من العدل، فأؤخر ذلك حتى أخرج معه طمعا من طمع الدنيا فينفروا من هـذه ويسكنوا لهذه، يا بني لا تعجل، فإن الله ذم الخمر في القرآن مرتين، وحرمها في الثالثة، وإني أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدعوه جملة، فيكون من ذا فتنة " [1] .

ففي التدرج حكم بليغات، لا فكاك لمصلح من رعايتها والسعي لتحصيلها، ولا توفيق لداعية دون النظر فيها ونسج دعوته على منوالها، وأهم ما يظهر للناظر من حكم التدرج في التشريع والتبليغ والتطبيق، أمور، منها:

1- التدرج يسهل قبول الدعوة

فلو أن الله تعالى نزل على الناس كتابه جملة واحدة، والشرائع دفعة واحدة، يطالبهم بالتزام تعاليمه كلها، لما قبل ذلك إلا النادر القليل منهم، ولكنه راعى أحوالهم، فخاطبهم بما يوافق الفطرة، ويسهل على المدعوين قبول دعوته، فأنزل كتابه منجما مفرقا، وألزم بالتكاليف شيئا فشيئا، يسلك بهم سبيل التدرج، ويأخذهم بالرفق، حتى تكون عندهم [ ص: 120 ] الاستعداد لقبول الدعوة، واستأهلوا للتكليف، عندئذ استكمل دينه وتكاليفه.. فالتدرج هـو العلاج لإصلاح النفوس الجامحة، وهو الوسيلة لتقبل التكاليف وامتثالها من غير ضجر ولا عنت [2] .

2- التدرج يعين على الإعداد والإحكام

وما من دعوة في الأرض تقوم بنشر فكرة أو مذهب أو عقيدة بين الناس، أو تريد إقامة نظام سياسي أو اجتماعي، إلا وهي تحتاج إلى إعداد كبير وتهيئة للبيئة التي تريد أن تغرس فيها بذور دعوتها، لتنبت فيها خيرا وتوفيقا، كما أنه لا بد لها كذلك من إعداد الرجال القادرين على حمل هـذه الدعوة، حتى تنمو وتسمو وترسخ، اعتقادا وممارسة.

ذلك كله لا يتم، ولا يمكن أن يتم إلا على تدرج يمتد بضع سنين، ذلك كان شأن الدولة التي أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان شأن الدعوة التي أحكم غرسها فبقيت،وسرى نفعها في العالمين، وذلك كان شأن الرجال الذي أعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لصحبته رضي الله تعالى عنهم، في الدعوة والجهاد، قتالا وجدالا،وأمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، حتى قال الله تعالى فيهم: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) (آل عمران: 110) . [ ص: 121 ]

ولو أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن ينشئ دولة الإسلام في يوم واحد أو عام واحد، حكما ودعوة وإقامة للحدود،وتنظيما للحياة الاجتماعية، وغرسا لأخلاق القرآن، وإقامة لنظام الاقتصاد والمال، لو أراد أن يقيم كل هـذا جملة واحدة، لانهارت دولته، وضعفت شوكته، وهزمت دعوته، وقضي عليها في مهدها قبل أن تطرق آذان الآفاق، تدعو إلى الحق وإلى صراط الله المستقيم.

فالتدرج وسيلة الإحكام والإجادة، ولولاه ما أعد الرجال، ولا هـيئت الأجواء، ولا بقيت الدعوة.

3- التدرج علاج النفور

لا يغيب عن بال قليل الخبرة بالناس والحياة، أن التكليف بالكثرة مما لا يطيقه الناس، ولا يتحملونه، فيدعو ذلك للنفور والإدبار، ولا يجد صاحب الدعوة، الذي يريد أن يلقي بكل التكاليف والتشريعات جملة واحدة للناس إلا القليل النادر ممن يستجيب له؛ لأن طبيعة المكلفين لا تقبل الأخذ بجميع الفرائض والتكاليف، فيدعوهم ذلك إلى التولي وعدم الإقبال والامتثال، يقول القرطبي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ) (الإسراء: 106) .

يقول: " قوله تعالى: ( ونزلناه تنزيلا ) مبالغة وتأكيد بالمصدر للمعنى المتقدم، أي أنزلناه نجما بعد نجم، ولو أخذوا بجميع الفرائض في وقت واحد لنفروا " [3] . [ ص: 122 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية