الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق

الأستاذ / عبد الله الزبير عبد الرحمن

الدعاة وأهل المعصية

والدعاة لا يتجاهل خطابهم الدعوي أحدا من أهل المعاصي والذنوب، بل إن الدعوة لتتجاوز المذنبين والعاصين من أفراد الأمة المؤمنين، إلى الكفار والملحدين من الأمم الضالة الكافرة.

نعم إن الله تعالى كره إلى المؤمنين به الكفر والفسوق والعصيان، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، ولكن ليس من مقتضى ذلك أن يهمل خطاب المؤمن أهل الكفر أو أهل المعصية والفسوق بالدعوة إلى الله. [ ص: 48 ]

ولقد وصفنا الله عز وجل بأنا نحب غيرنا من أهل الكتاب والمشركين والمنافقين، مع بغضهم لنا،

حين قال: ( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله ) (آل عمران: 119) .

ولا يعني كوننا نحبهم أن نتخذهم أولياء من دون المؤمنين، ولكن يعني: أن نحب هـدايتهم، وأن ندعوهم إلى الخير، الذي أنعم الله به علينا، وأن نبصرهم بمكائد الشيطان،ليقبلوا على موائد الرحمن.

فإن كنا نحب هـداية من أشرك وكفر، ونخشى عليه مغبة الكفر والإشراك ثم غضب الجبار وسخطه، فمن باب أولى أن نحب من أذنب وأثم من أهل ملتنا، ومن ثم ألا يتجاهل خطابنا الدعوي العاصين والمذنبين من أهل الإسلام، بل الحق الصحيح أن نستغل العواطف الإيمانية في كل مؤمن للدفاع عن الدين والجهاد في سبيله، وإقامة الخير والبر في الأرض، وإصلاح الدنيا.

ومن الناس من يطالب اليوم أن لا نعامل أو نعاشر أو ندعو إلا أهل الصفوة من أهل التدين، وينادي بعضهم أن نعزل أو نفصل أو نهجر أهل المعصية من المؤمنين في كل الأحوال.

وهذا خطأ كبير، لأن الصواب في أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتوجيه العواطف الإيمانية الكامنة في النفوس، فندافع بهم عن الإسلام، فيجاهدون في سبيل الله. [ ص: 49 ]

ذلك، لأنك قد تجد أحيانا مرتكب كبيرة أو شارب خمر غلبته شهوته ونفسه، يحب الله ورسوله، فكيف يعزل هـذا أو يفصل أو يهجر؟ كالذي حده الرسول صلى الله عليه وسلم في الخمر مرات، فيعود ويشرب، ومع ذلك لم يفصله النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهجره، بل كان يمازح الرسول صلى الله عليه وسلم ويضاحكه ويجالسه في المسجد، فما تضايق منه، وما اعتزله، وما تجاهله.. ولما تضايق بعض الأصحاب منه، ومن كثرة شربه، وكثرة إقامة الحد عليه فلعنوه، زجرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأغضبه ذلك، فنهاهم وهو يشهد له بحبه لله ورسوله.

ففي صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ( أن رجلا كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم كان اسمه عبد الله، وكان يلقب حمارا ، وكان يضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلده في الشراب، فأتي به يوما فأمر به فجلد، فقال رجل من القوم: اللهم العنه، ما أكثر ما يؤتى به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا تلعنوه، فوالله ما علمت، إنه يحب الله ورسوله ) [1] .

وأخرج أبو يعلى ( أن حمارا هـذا كان يهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم العكة من السمن والعسل، فإذا جاء صاحبه يتقاضاه، جاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال: اعط هـذا متاعه، فما يزيد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبتسم، ويأمر به فيعطى ) [2] . [ ص: 50 ]

وفي حديث محمد بن عمرو بن حزم : ( وكان لا يدخل إلى المدينة طرفة إلا اشترى منها، ثم جاء فقال: يا رسول الله! هـذا أهديته لك، فإذا جاء صاحبه يطلب ثمنه، جاء به فقال: اعط هـذا الثمن، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم : ألم تهده إلي؟ فيقول: ليس عندي، فيضحك النبي صلى الله عليه وسلم ويأمر لصاحبه بثمنه ) [3] .

هكذا هـدم رسول الإسلام ومعلم الدعاة فكرة العزل أو الهجر للمذنبين، حتى لا يعين الشيطان عليهم.

وهكذا فعل أئمة العلم والدين من بعده صلى الله عليه وسلم ، فقد روى أبو يوسف رحمه الله تعالى أن أبا حنيفة النعمان كان له جار، وكان يشرب في الحانة، ثم يرجع بالليل يتغنى ويقول:


ضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر

فرجع ذات ليلة فأخذه الطائف فحبسه، ففقد أبو حنيفة صوته فسأل عنه، فقيل له: حبسه الطائف، فتكلم فيه أبو حنيفة حتى أطلق، ثم قال له: يا فتى! رأيتنا أضعناك [4] .

إذن فالذي على الداعية الفقيه هـو: استيعاب مثل هـذا (المذنب) في العمل الإسلامي،باستغلال عواطفه وطاقاته المؤمنة في إحقاق الحق [ ص: 51 ] وإبطال الباطل، لأن في ذلك إتاحة له لإتباع ما اقترف من سيئات بحسنات الدفاع عن الحق، ونقلا له من ساحات المعصية إلى ساحات الجهاد والرشاد والطاعة، وانتشالا له من مستنقعات الرذيلة إلى رحاب الفضيلة، وتغييرا له من اتباع الهوى والخلود إلى الأرض،إلى اتباع الحق والارتقاء إلى الله.

وقد يكون استيعاب مثل هـذا سببا لتوبته وصلاحه، كما كان من " أمر أبي محجن الثقفي : أتي به سعد بن أبي وقاص يوم القادسية ، وقد شرب الخمر، وكان قد حد فيه مرات متعددة، يقال سبع مرات، فأمر به سعد، فقيد وأودع في القصر، فلما رأى أبو محجن الخيول تجول حول حمى القصر، وكان من الشجعان الأبطال، صار يقول:


كفى حزنا أن تدحم الخيل بالقنا     وأترك مشدودا علي وثاقيا
إذا قمت عناني الحديد وغلقـت     مصاريع من دوني تصم المناديا
وقد كنت ذا مال كثير وإخـوة     وقد تركوني مفردا لا أخا ليا

ثم قال لابنة حفصة امرأة سعد: أطلقيني ولك -والله علي- إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت استرحتم مني، فحلته حتى التقى الناس، وكان بسعد جراحة، فلم يخرج يومئذ إلى الناس، وصعدوا به إلى العذيب ينظر إلى الناس، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحا، فجعل لا يحمل على [ ص: 52 ] ناحية من العدو إلا هـزمهم، وجعل الناس يقولون: هـذا ملك، لما يرونه يصنع، وجعل سعد يقول: " الصبر صبر البلقاء، والظفر ظفر أبي محجن ، وأبو محجن في القيد " ، فلما هـزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرت ابنة حفصة سعدا، بما كان من أمره، فقال سعد: " لا والله! لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلا لهم " ، فخلى سبيله، فقال أبو محجن: " قد كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها، فأما إذ بهرجتني! فوالله لا أشربها أبدا " [5] .

فيتضح أن الأولى بالدعاة إلى الله ألا يهجروا أهل المعاصي والذنوب -كما يطلب ذلك كثيرون- بقدر ما يدعونهم إلى الخير، ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر.

وفرق بين أن تبغض الذنب وبين أن تبغض المذنب؛ لأن الذنب لا يحل ولا يبيح بغض المسلم، والمسلم يجب أن يكون محبوبا للمسلم، كما أن الذنب لا يخرج مرتكبه المسلم من حظيرة الإسلام، ولسنا ممن يكفر بالذنب، صغيرا كان أو كبيرا، كما أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يكفرون بالذنب والمعصية، ولا كانوا يبغضون المذنب ما بقي مسلما.

" فهذا أبو الدرداء رضي الله عنه ، يمر على رجل قد أصاب ذنبا، فكانوا يسبونه، فقال: أرأيتم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مستخرجيه؟ [ ص: 53 ] قالوا: بلى! قال: فلا تسبوا أخاكم واحمدوا الله الذي عافاكم! قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي " [6] .

" ويقول ابن مسعود رضي الله عنه : إذا رأيتم أخاكم قارف ذنبا فلا تكونوا أعوانا للشيطان عليه، تقولوا: اللهم أخزه! اللهم العنه! ولكن سلوا الله العافية،فإنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كنا لا نقول في أحد شيئا حتى نعلم علام يموت، فإن ختم له بخير علمنا أنه قد أصاب خيرا، وإن ختم له بشر خفنا عليه " [7] .

بل قد يكون المذنب -وإن كان صاحب كبيرة- محبا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم محبوبا إليهما، يستحق من صاحب السنة الدفاع والمناصرة، وقد مر على صفحات سابقة كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم يدافع عن عبد الله الصحابي الذي حد في الخمر مرات، ( فيقول لمن يلعنه: فوالله ما علمت، إنه يحب الله ورسوله ) .. فكيف يبغض صاحب هـذا الحب بمجرد ارتكابه ذنبا لا يخرجه من ملة الحق، ولا يفارق به جماعة المسلمين؟

التالي السابق


الخدمات العلمية