الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

من مرتكزات الخطاب الدعوي في التبليغ والتطبيق

الأستاذ / عبد الله الزبير عبد الرحمن

هـجر الثلاثة الذين خلفوا

أما الاستدلال لوجوب هـجر العاصين والمذنبين بقصة الثلاثة الذين خلفوا - كعب بن مالك ، وهلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع - وهجر الصحابة رضي الله عنهم ، مع رسولنا صلى الله عليه وسلم لهم خمسين يوما هـجرا كاملا! [ ص: 54 ] فليس هـو بدليل عام يصلح إنزاله لكل الأزمنة والأمكنة والأحوال، فيكون قاعدة عامة مستمرة، وإنما هـو -فيما أرى- من قبيل سنن الأعيان ووقائع الأحوال، التي تختص بذات الحالة وما كان مثلها تماما لا غير.

ودليل تخصيص هـذا الهجر في الثلاثة الذين خلفوا ومن كان على حالهم تماما، دون غيرهم ممن شابه أحوالهم من بعض الوجوه، أمور:

الأول: أنه لو كان الهجر للعاصين لمعصيتهم، فإن بالمدينة يومئذ من هـم أعتى من الثلاثة جرما، وأشد معصية، وأكثر إثما، بل كان ممن تخلف عن تبوك من هـو منافق معلوم النفاق ظاهره، ومع ذلك لم يهجرهم الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته المرضيين.

الثاني: أنه لم يحدث هـجر في تاريخ الإسلام إلا هـذه الواقعة، فلم يتكرر مع تكرر وتوالي الذنوب والمعاصي وتوافر المذنبين والعاصين، وأيضا مع تكرر الخلف والقعود عن الخروج، وهذا يعني أن مجرد ارتكاب الذنب والمعصية في عدم الخروج، لم يكن هـو العلة في الهجر.

الثالث: أنه حدث في العصر السني في المدينة ما هـو أعظم خطرا وشرا على المسلمين،وأشد ضررا على دولتهم من تخلف الثلاثة عن غزوة تبوك، ومع ذلك لم يهجر مرتكبه أو يفصل، أو يعزل عن مجتمع المدينة كما فعل بالثلاثة، وذلك أن الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه ، قبيل الفتح، كتب إلى أهل مكة ينصحهم بالاستعداد لجيش محمد صلى الله عليه وسلم ، ويخبرهم بغزو النبي صلى الله عليه وسلم مكة، ويكتب إليهم بأسرار [ ص: 55 ] جيشه عددا وعتادا، وفي ذلك من إعانة أهل الكفر على أهل الإسلام ما لا يخفى على أحد، ومن موالاة الكفار من دون المؤمنين، ما لا يغيب عن أحد، ومن تربص الخطر ووشوكه، أكثر من تخلف كعب وصاحبيه عن غزوة العسرة ما لا يشكل على متدبر.

ومع كل ذلك لما ( قال عمر رضي الله عنه : إنه قد خان الله والمؤمنين فدعني فلأضرب عنقه، قال الرسول الداعية القدوة صلى الله عليه وسلم : أليس من أهل بدر ؟ لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، فدمعت عينا عمر وقال الله ورسوله أعلم ) [1] .

وهذه الفعلة تعتبر اليوم في الأرضين (خيانة عظمى) ، ينال مرتكبوها القتل والإعدام.

ومع عظم هـذا الذنب وشدة خطره وضرره وشره، لم يهجر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه هـذا الصحابي الجليل.

ومع قلة خطر تخلف كعب وصاحبيه عن غزوة العسرة، وخفيف ضرره وشره بالنسبة إلى فعلة حاطب رضي الله عنهم جميعا، هـجروا وقوطعوا شهرين إلا عشرا.

إذن، كان هـجر الثلاثة الذين خلفوا، من وقائع الأحوال وسنن الأعيان التي تختص بذات الحالة، ولا تكون دليلا يستدل به على وجوب هـجر العاصين والمذنبين. [ ص: 56 ]

ومعنى ذلك أنه: ليس من الصواب في شيء أن نجيز للناس هـجر كل مذنب عاص في المجتمع الإسلامي، ولكن الحق الصحيح ألا يهجر أهل الذنوب والمعاصي بقدر ما يدعون إلى الخير ويؤمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

التالي السابق


الخدمات العلمية