الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
التدرج في التشريع

ما يؤكد أهمية اتخاذ سبيل التدرج وضرورة الارتكاز عليه في الدعوة والتبليغ سلوك الشريعة وانتهاجها له في تشريعاتها البديعة كلها إيجابا وتحريما، وسنا للقوانين والأحكام،فظهر التدرج جليا في فرض العبادات، وتحريم العادات الفاسدة، وسن القوانين والأحكام التي تنظم العلائق بين البشر، وتقي المجتمع من الإجرام والآثام.. ونجلي بعض هـذه الجوانب من ارتكاز التشريع على التدرج فيما يلي.

أولا: التدرج في فرض العبادات التدرج في تقرير الشارع للعبادات وفرضها، لا يخفى على أي ممن قرأ القرآن بقليل تدبر ويسير فهم، ولقد كان اعتماد التشريع على التدرج في تكليف العباد بالفرائض والواجبات كبيرا، مما يعد تنبيها للدعاة، وفتحا لعيونهم، وطرقا لآذانهم، وإيحاء للمصلحين أن ارتكزوا على التدرج في التغيير والإصلاح، وأن انتهجوا التدريج في التكليف والتبليغ.

والتدرج في فرض العبادات كان من طريقين:

الطريق الأول: التدرج بين الفرائض فيما بينها

فتدرج الشارع في فرض العبادات عموما، يشرع للناس عبادة، ثم يوجب عليهم أخرى، ثم يفرض عليهم ثالثة، ثم يختم لهم برابعة، وهكذا. [ ص: 123 ] فالصلاة فرضت في السنة العاشرة من البعثة، أي قبل الهجرة .. والصوم شرع بعد ذلك بخمس سنوات، في العام الثاني من الهجرة.. والزكاة في السنة الثانية من الهجرة عقب الصوم.. والحج بعدهما بثلاث سنوات أو أربع أي في السنة الخامسة أو السادسة [1] .

الطريق الثاني: التدرج في فرض كل عبادة

وكذلك تدرج الشارع في فرض كل عبادة على حدة، حتى تكتمل كل عبادة بأركانها وشروطها وهيئاتها وأعدادها، فيقيم في كل مرحلة ركنا، أو يحدد عدد الفريضة، أو يوضح شرطا من شروط صحتها، وهكذا.

1- التدرج في فرض الصلاة

لم يكتمل تشريع الصلاة إلا بمراحل ثلاث:

المرحلة الأولى

وكانت الصلاة فيها ركعتين في الغداة، وركعتين في العشي،

كما أخبر الله بها في قوله تعالى: ( واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ) (الكهف: 28) .

وبهما أمر نبيه صلى الله عليه وسلم ومن معه في قوله تعالى: ( وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار ) (غافر: 56) .

المرحلة الثانية

وهي مرحلة فرض الصلاة ثلاث مرات في اليوم: [ ص: 124 ] الفجر والعصر وقيام الليل، بإضافة العصر إلى ما كان قد فرض في المرحلة الأولى،وذلك بأمر الله تعالى للأمة من خلال نبيهم صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: ( وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ) (هود: 114) .

قال ابن كثير : " إنما كان يجب من الصلاة صلاتان، صلاة قبل طلوع الشمس، وصلاة قبل غروبها، وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة " [2] .

المرحلة الثالثة

وهي المرحلة التي اكتمل فيها التشريع، وتم إيجاب الصلوات الخمس،

وذلك بقوله تعالى: ( أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر ) (الإسراء: 78) .

إن كان هـذا التدرج في أوقات الصلاة وعددها، فإنه قد تدرج الشارع أيضا في عدد ركعاتها، فكانت الصلاة أول الأمر ركعتين ركعتين، ثم أتمت بركعاتها الكاملة، بفعل النبي صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة، ( قالت عائشة رضي الله عنها : فرض الله الصلاة حين فرضها، ركعتين، ثم أتمها في الحضر، فأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى ) [3] . [ ص: 125 ]

2- التدرج في تشريع الصيام

والشارع أيضا لما أراد أن يفرض على المسلمين صيام شهر رمضان، لم يفرضه عليهم دفعة واحدة، بل تدرج في إيجابه والإلزام به على مرحلتين:

المرحلة الأولى

وهي المرحلة التي فرض الله فيها الصوم على الأمة مع التخيير بين الصيام أو الإفطار مع الفدية،

بدليل قوله تعالى: ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون ) (البقرة: 184) .

فكان من أطعم كل يوم مسكينا ترك الصوم، وهو يطيقه على قول الجمهور. [4] .

وروي عن قتادة وعطاء ومعاذ بن جبل أن فرض الصيام كان أول الأمر ثلاثة أيام من كل شهر مع التخيير بين الصوم والفدية [5] .

المرحلة الثانية

وهي مرحلة الإلزام والتحتيم، وإكمال الفرض والإيجاب بصوم شهر رمضان،

وذلك بنزول قوله تعالى: ( شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هـدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ) (البقرة: 185) . [ ص: 126 ]

أخرج النسائي عن " سلمة بن الأكوع قال: " لما نزلت هـذه الآية: ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) ، كان من أراد منا أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها " [6] .

وعن حكمة التدرج في فرض هـذه العبادة واستكمال تشريعها، يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: " ولما كان فطم النفوس عن مألوفاتها وشهواتها من أشق الأمور وأصعبها، تأخر فرضه إلى وسط الإسلام بعد الهجرة ، لما توطنت النفوس على التوحيد والصلاة، وألفت أوامر القرآن، فنقلت إليه بالتدريج " [7] .

3- التدرج في فرض الزكاة

أما فرض الزكاة فقد استمر تشريعه سنين عددا حتى اكتمل في السنة الثامنة بعد الهجرة، أخريات سنين الوحي.

فقد جاء ذكر الزكاة والأمر بها في السور المكية الأولى، مما يؤكد أن بدء تشريعها كان في مكة ، ومن ذلك قوله تعالى في سورة الليل، وهي مكية: ( وسيجنبها الأتقى * الذي يؤتي ماله يتزكى ) (الليل: 17- 18) .

وقوله تعالى في سورة لقمان، وهي مكية: ( الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هـم يوقنون ) (لقمان: 4) . [ ص: 127 ]

وفي سورة الروم: ( وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هـم المضعفون ) (الروم: 39) .

ثم يأتي ذكرها في أوائل السور التي نزلت في المدينة بالتشريع والتوجيه، مثل البقرة، فجاء فيها: ( وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين ) (البقرة: 43) .

وهكذا يستمر تشريع الزكاة وفرضها هـذه السنين لتكتمل صورتها في السنة الثامنة من الهجرة بقوله تعالى: ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم ) (التوبة: 60) .

فتشريع الزكاة لم يكتمل إلا بعد عشر سنين أو يزيد -ونحن اليوم نريد أن نقيم كل الدين بجرة قلم أو قرار حاكم- ليزداد التأكيد على ضرورة الارتكاز على التدرج كمنهج دعوي حكيم.

التالي السابق


الخدمات العلمية