الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مسالك يتحقق بها مرتكز التيسير

هكذا نجد مكان هـذا الأصل وموقعه في نصوص الشرع، وروح الإسلام وممارسات الرسول صلى الله عليه وسلم ، فمهم جدا أن يحقق هـذا الأصل في واقع الدعوة، وأن يرتكز عليه الدعاة في التبليغ والتطبيق.

وتحقيقا لهذا المرتكز الأساس، لا بد من اتخاذ مسالك ثلاثة:

- المسلك الأول: تغليب الإباحة على التحريم.

- المسلك الثاني: إقرار الرخص في محالها.

- المسلك الثالث: تقديم الترغيب والتبشير. [ ص: 92 ]

وذلك أن التعسير إنما يكون إذا غلب التحريم، وقلت المباحات، وألزم الأفراد بالعزائم، وأبعدت بالرخص، وشن الدعاة على الناس ترهيبا وتنذيرا.

بينما التيسير يتحقق بتغليب الإباحة على التحريم، والنظرة إلى الرخص بأنها توسيع في الدين وتيسير لأهله، وعدم إلزام الناس بالعزائم، أو الإنكار عليهم الأخذ بالمباح والرخص، لأجل ذلك كان لا بد لنا من وقفة مع كل مسلك:

المسلك الأول: تغليب الإباحة على التحريم

وهذه هـي النظرة الصحيحة والفهم السليم لدين الإسلام، وفقه الأحكام، وأصول الدعوة.

فالإسلام ناصر الإباحة في تشريعاته، وغلبها على التحريم، بخلاف الشرائع السالفة، إذ اتسمت تلك الشرائع جميعها بتغليب التحريم تشديدا على أقوامها وأممها، وإن شئت فاقرأ من القرآن قول الله تعالى: ( فبظلم من الذين هـادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا ) (النساء: 160) ..

أو اقرأ قوله سبحانه: ( وعلى الذين هـادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم ذلك جزيناهم ببغيهم وإنا لصادقون ) ( الأنعام: 146) . [ ص: 93 ]

أما الإسلام فقد جاء ليفك عنهم قيود التحريم والحظر، ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، وما تلك إلا مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي جاء رحمة للعالمين، والقرآن في ذلك صريح،

فقد قال تعالى: ( الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم ) (الأعراف: 32) .

القرآن يغلب الإباحة

والقرآن الكريم يغلب الإباحة في آياته، وبألفاظه وإشاراته، وبإطلاقاته لألفاظ الإباحة، ثم بحصره وعده وتحديده لما حرمه.

فقد أطلق الإباحة لكل زينة، وكل طيب، مستنكرا على من يحاول تحريم بعضها أو كلها،

فيقول سبحانه: ( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ) (الأعراف: 33) .

وقد أنكر على كل من يحرم شيئا ظنا منه أو جهلا، ويطالبهم بالدليل والبرهان فيما حرموه،

وذلك في قوله تعالى: ( قل هـلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هـذا ) (الأنعام: 150) ..

وفي قوله عز وجل : ( قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ) (الأنعام: 143) . [ ص: 94 ]

والقرآن العظيم، اتخذ أسلوب الحصر والعد والتحديد لإثبات قلة ما حرم على عباده، بصفة (إنما) ، التي تفيد الحصر والقصر،

كما في قول الله تعالى: ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) (الأعراف: 33) .

ويذكر سبحانه الناس أنه قد فصل لهم ما حرمه عليهم تفصيلا فقال: ( وقد فصل لكم ما حرم عليكم ) (الأنعام: 119) ،

أي أن الذي حرمه فصله ذكرا، وأن ما دونه فهو المباح [1] .

ويكثر القرآن من صيغ الإباحة والحل وعدم الإثم والمؤاخذة في آياته.

فعلى سبيل المثال وردت صيغة: " لا جناح عليكم " في القرآن خمسة وعشرين مرة، إلى غيرها من الصيغ الدالة على الإباحة مثل: " أحل لكم " .. ومثل: " لا إثم عليه " .

وهكذا نرى كيف أن القرآن الكريم يناصر الإباحة، ويقلل التحريم ويذمه، وفي ذلك يقول ابن تيمية رحمه الله إن عامة ما ذم الله به المشركين في القرآن من الدين المنهي عنه، إنما هـو الشرك والتحريم،

وكذلك حكى عنهم في قوله: ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء ) ..

قال: ولما كان أصل المنهي عنه الذي فعلوه [ ص: 95 ] الشرك والتحريم، روي في الحديث: ( إنما بعثت بالحنيفية السمحة ) ، فالحنيفية ضد الشرك، والسماحة ضد الحجر والتضييق.. وفي صحيح مسلم عن عياض بن حمار ( عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: إني خلقت عبادي حنفاء، فاجتالتهم الشياطين عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا ) .

وظهر أثر هـذين الذنبين في المنحرفة من العلماء والعباد والعامة، بتحريم ما أحله الله تعالى، والأول يكثر في المتفقهة والمتورعة، والثاني يكثر في المتصوفة والمتفقرة ا.ه[2] .

السنة تغلب الإباحة

وإذا ما استقرأنا السنة النبوية الشريفة، فإن انتصارها للإباحة واضح ظاهر، وصدها لمن يحاول التحريم ويولع به بين جلي.

فقد حاول بعض الصحابة تحريم الأشياء على أنفسهم، فتصدى لهم صاحب السنة، ليبين لهم خطأ ما وقعوا فيه، وبعد ما صنعوا.

( قال ابن جريج عن عكرمة أن عثمان بن مظعون ، وعلي بن أبي طالب ، وابن مسعود ، والمقداد بن الأسود ، وسالما مولى أبي حذيفة ، تبتلوا فجلسوا في البيوت، واعتزلوا النساء، ولبسوا المسوح، وحرموا [ ص: 96 ] طيبات الطعام واللباس، إلا ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل، وهموا بالإخصاء، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار،

فنزلت هـذه الآية: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين ) (المائدة: 87) .

فلما نزلت فيهم بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن لأنفسكم حقا، وإن لأعينكم حقا، صوموا وأفطروا، وصلوا وناموا، فليس منا من ترك سنتنا فقالوا: اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت )
[3] .

وأخرج ابن جرير ، ( أنه صلى الله عليه وسلم جلس يوما فذكر الناس ثم قام، ولم يزدهم على التخويف، فقال ناس من الصحابة: ما حقنا إن لم نحدث عملا، فإن النصارى قد حرموا على أنفسهم فنحن نحرم، فحرم بعضهم أن يأكل اللحم والورك، وأن يأكل بالنهار، وحرم بعضهم النساء، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال أقوام، حرموا النساء والطعام والنوم؟ ألا إني أنام وأقوم، وأفطر وأصوم، وأنكح النساء، فمن رغب عني فليس مني ) [4] .

والسنة تجرم من يتسبب في تحريم الأشياء بسؤاله، فيحرم الله على الناس من أجل مسألته، ما لم يكن محرما من قبل.. [ ص: 97 ] ففي سنن أبي داود ( يقول النبي صلى الله عليه وسلم : إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما، من سأل عن أمر لم يحرم، فحرم على الناس من أجل مسألته ) [5] .

الفقه يغلب الإباحة

ومن عاش الفقه، وعرف مداخله ومنطلقاته وفهم مسائله، وتابع مساره ومسالكه، في تقرير الأحكام واستنباطها، يجد دوران الأحكام الشرعية جميعها حول الإباحة، بل الإباحة هـي المحور الرئيس للأحكام الشرعية، من الوجوب والندب والكراهة والحرمة، وكأنها في آخر المطاف ترجع إليها.

فلو أخذنا الواجب والحرام، نجدهما يتقابلان في الثواب والعقاب.. فعل الواجب يقابل ترك الحرام، وكلاهما موجب للثواب.. وفعل الحرام يقابل ترك الواجب، وكلاهما موجب للعقاب، ولكن مع ذلك نجد أن العقاب فيهما -أي بترك الواجب أو فعل الحرام- أقل من الثواب في فعل الواجب وترك الحرام، الحسنات أكثر من السيئات، إذن المؤاخذة أقل،

قال تعالى: ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون ) (الأنعام: 160) .

وفوق ذلك: فإن الحرام كثيرا ما يتغير ليصبح مباحا جائزا. [ ص: 98 ]

فالضرورات تبيح المحظورات : كإباحة الميتة، والدم، ولحم الخنزير،

كما في قوله سبحانه وتعالى : ( إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم ) (البقرة: 173) .

والحاجات قد تنزل منزلة الضرورات، فتبيح المحظورات: كما هـو الحال في كثير من صور البيوع والعقود، كالإجارة ، والسلم ، فإنهما بيع معدوم، وبيع المعدوم باطل، ولكنهما جازا لحاجة الناس.. وكذلك الجعالة والحوالة ، فالجعالة فيها جهالة، والحوالة بيع دين بدين وكلاهما ممنوع، ولكن الشرع أباحهما لعموم حاجة الناس، وهكذا.. [6] .

وما حرم سدا للذريعة، يباح للمصلحة الراجحة: يقول ابن تيمية رحمه الله: " ثم إن ما نهي عنه لسد الذريعة يباح للمصلحة الراجحة، كما يباح النظر إلى المخطوبة، والسفر بها إذا خيف ضياعها، كسفرها من دار الحرب، مثل سفر أم كلثوم ، وكسفر عائشة لما تخلفت مع صفوان ابن المعطل ، فإنه لم ينه عنه إلا لأنه يفضي إلى المفسدة، فإذا كان مقتضيا للمصلحة الراجحة، لم يكن مفضيا إلى المفسدة " [7] . [ ص: 99 ]

أما بقية الأحكام الثلاثة: الندب والكراهة والإباحة، فإننا نجد أن فعل المندوب يجلب الثواب، وتركه لا يوجب عقابا، وأن ترك المكروه فيه الثواب، وفعله لا عقاب فيه.

إذا ترك المندوب مباح وجائز، وفعل المكروه مباح جائز، فاتفقا مع المباح، خاصة إذا قصد بالمباح الاستعانة على القربات، فإنه يجلب الثواب.

وقد وجدت شيخ الظاهرية ابن حزم ينص على ذلك في المحلى، قال: " والشريعة كلها إما فرض يعصي من تركه، وإما حرام يعصي من فعله، وإما مباح لا يعصي من فعله، ولا من تركه، وهذا المباح ينقسم إلى ثلاثة أقسام.

1- إما مندوب إليه، يؤجر من فعله ولا يعصي من تركه.

2- وإما مكروه، يؤجر من تركه، ولا يعصي من فعله.

3- وإما مطلق، لا يؤجر من فعله ولا من تركه، ولا يعصي من فعله ولا من تركه. [8] .

ومن ذلك خرج الفقهاء أصلا، وقعدوا قاعدة تقول: " الأصل في الأشياء الإباحة " .. وقالوا: " لا تحريم إلا بنص " . [ ص: 100 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية