الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
التدرج في التبليغ

إن رسالة الإسلام تدرجت في تبليغ دعوتها للناس، كما تدرجت في تشريع الأحكام وإنزال التكاليف، فتجزأ البلاغ على شعب الحياة، ورتب الهموم، وأجناس الناس والأقوام والأمم، على مر ابتعاث الرسل والنبيين.

1- تدرج الدعوة بين الرسل

ولم يكن بلاغ كل رسول كاملا يغطي كل الدين، بل بدأ البلاغ يصوب هـمه على قضية، أو يتحرف على أمة أو قوم، يتسع بتوالي الرسل وتجدد الدعوة ونزول الكتب حتى اكتمل دينا، وتم نعمة يمن به الله تعالى على عباده، ويرضاه لهم، ولا يقبل غيره من دين، فينادي الوحي في جنبات الأرض، يلقي على العالمين بعد آلاف السنين من ابتداء البلاغ قول الله تعالى: ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة: 3) ..

ويرتب على ذلك القرار الإلهي الحاسم أنه: ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) (آل عمران: 85) . [ ص: 130 ]

وقارئ القرآن لا شك، يجد أن دعوات الرسل تتكامل، إذ كل يبلغ أمته بشعبة من الدين، ويقيم فيهم جانبا من الحياة.

وإن كان لا بد من إيراد نماذج، فموسى عليه السلام عالج في قومه الطاغوتية، وقام يحررهم من استعباد فرعون ، وقد كلف بذلك، يقول لفرعون: ( أرسل معنا بني إسرائيل ) .. ويقول له: ( وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) (الشعراء: 17، 22) .

وشعيب عليه السلام ، يبلغ أمر الله في الأموال والبيوع، ينادي فيهم أن لا يطففوا ولا يخسروا الموازين والمكاييل، وأن يعرفوا حق الله في أموالهم، يقول لهم: ( أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) (الشعراء: 181-183) .

وصالح عليه السلام ، يواجه الفساد والمفسدين يقول لقومه: ( فاتقوا الله وأطيعون * ولا تطيعوا أمر المسرفين * الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ) (الشعراء: 150-152) .

ولوط عليه السلام ، يقوم في أمته السلوك والأخلاق، ويواجه الشذوذ الجنسي، وتفشي الفواحش والمنكرات، يقول لهم: [ ص: 131 ] ( إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين * أإنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر ) (العنكبوت: 28-29) .

ونوح وإبراهيم عليهما السلام، يركزان على مواجهة الفساد الاعتقادي الذي تفشي في قومهما، ينفيان الشرك عن الله، وينذران خطأ ما فيهم من التعلق بالآلهة من دون الله.

وهكذا استمر البلاغ خاصا بقوم، أو بأمر، أو بخلق، أو باعتقاد -وإن اجتمع عند بعض الرسل المبلغين عن الله أمور أو جوانب توجه إليها البلاغ- يتسع أمر البلاغ بتوالي الرسل، حتى اكتمل على لسان محمد صلى الله عليه وسلم .

2- التدرج في إعداد أهل البلاغ

وهذا جانب آخر مهم للغاية يتعلق بالتبليغ، قام أيضا على التدرج، وهو أن الله تعالى تدرج في إعداد المبلغين من الرسل وتهيئة سادة الدعوة وقادة الأمة.

وأوضح مثال لهذا الجانب: ما سلكه الوحي بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فبدأ بإعداد فكره وعقله، وهو أول ما ينبغي الاهتمام به ورعايته وتربيته، فيأتيه الوحي بأول آية من القرآن يقول له: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق ) (العلق: 6) . [ ص: 132 ]

ثم يثني بإعداد روحه ونفسه ليكون الداعية العابد، زكي النفس، فينزل عليه بقول الله تعالى: ( يا أيها المزمل * قم الليل إلا قليلا * نصفه أو انقص منه قليلا * أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا ) (المزمل: 1 -4) .

ثم يثلث بإعداده مواجها، يقوم بتغيير المجتمع ويعاني من صدود قومه، فلا بد أن يصبر عندئذ في الله وفي سبيل دعوته حين البلاغ، ليستمر البلاغ ويبلغ النجاح.. فيكون فيه شخصية الصابر في الله، يقول له تعالى: ( ولربك فاصبر ) (المدثر: 7) .. ويريه أن الصبر والتريث بالمدعويين هـو حال أولي العزم من الرسل فيقول له: ( فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ولا تستعجل لهم ) (الأحقاف: 35) .

ويأتي بعد ذلك إلى تحميله الرسالة دون تكليفه بالبلاغ والدعوة، فيقول له: ( إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا ) (المزمل: 5) .

بعد كل هـذا، يؤمر بالتبليغ والدعوة بقوله تعالى: ( يا أيها المدثر * قم فأنذر ) (المدثر: 1-2) .

بكل هـذه الخطوات يعد الدعاة من الرسل المبلغين، فيعد فيهم أولا الفكر والعقل، ثم الروح والنفس الزكية العابدة الذاكرة، ثم الداعية الصابر الحليم، وبعده يحمل الرسالة ولا يكلف بالتبليغ، وبعد ذلك يبدأ بالبلاغ والصدع بأمر الله. [ ص: 133 ] 3- التدرج مع من يراد تبليغهم

وهذا جانب ثالث راعى فيه الإسلام التدرج في تبليغ الدعوة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو مراعاة جانب المدعويين بعد أن تدرج في تبليغ الرسالة عموما، ثم تدرج في إعداد المبلغين والدعاة.

ولقد كان توجيه القرآن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الإسلام والصدع به، أن يكون على مراحل وخطوات، يبدأ بالأقربين، وينتهي بالناس كافة، ولم يكلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في بادئ الأمر أن يلقي على الناس جميعا بلاغه المبين.

يقول ابن القيم رحمه الله: " فصل في ترتيب الدعوة، ولها مراتب: المرتبة الأولى: النبوة. الثانية: إنذار عشيرته الأقربين. الثالثة: إنذار قومه. الرابعة: إنذار قوم ما أتاهم من نذير من قبله وهم العرب قاطبة. الخامسة: إنذار جميع من بلغته الدعوة من الجن والإنس إلى آخر الدهر.. " [1] .

4- التدرج في مقدار البلاغ

وهذا جانب رابع من جوانب التدرج في التبليغ، هـو التدرج في تبليغ حقائق الدين،وشرائعه، وأحكامه.. لا يبلغ الدعاة كل الدين [ ص: 134 ] بحقائقه وشرائعه وأحكامه للناس جملة واحدة، بقدر ما يطلب منهم أن يتدرجوا في تبليغها.

وليتدرج الدعاة في تبليغ ذلك، لا بد لهم من نظر مستمر في أمر غاية في الأهمية، يحدد به نوع البلاغ وقدره، ذلك هـو:

النظر في أحوال الناس ممن يراد تبليغهم: هـل هـم حديثو عهد بالإسلام، وهل التدين باق فيهم حيا ممارسا، وهل يتحملون ما يلقى إليهم من البلاغ، أم بعضه، وهكذا.

فحديث العهد بالإسلام، لا يصلح معه تبليغه كل الدين، وإنما يجزأ له البلاغ بما لا يكون المرء مسلما إلا به، ثم الأهم فالأهم مع مراعاة الأيسر فالأيسر.

ومن لم يكن التدين فيهم باقيا، حيث غاب عن واقعهم السنوات، لا يطيقون التكاليف جملة والبلاغ دفعة، فيأتيهم التبليغ على سنين حتى يفيئوا إلى الرشد المفقود تلك السنين.

ولقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الدعاة، حين أمر معاذ بن جبل برعاية هـذه الأمور، وتحديد قدر البلاغ بحسب حال القوم الذين أرسله إليهم من أهل اليمن ، حيث كانوا أهل كتاب يراد الانتقال بهم من [ ص: 135 ] دينهم، الذي ترسخت تعاليمه فيهم، إلى دين الإسلام الجديد، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدد له بم يبدأ؟ وماذا يقدم؟ وكيف يبلغ؟: ( إنك تأتي قوما أهل كتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله -وفي رواية فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل - فإن هـم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هـم أطاعوا لذلك، فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هـم أطاعوا لذلك، فإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينه وبين الله حجاب ) [2] .

ويوضح ابن تيمية رحمه الله هـذا المعنى بقوله: " والحجة على العباد إنما تقوم بشيئن بشرط التمكن من العلم بما أنزل الله، والقدرة على العمل به، فأما العاجز عن العلم كالمجنون، أو العاجز عن العمل، فلا أمر عليه ولا نهي، وإذا انقطع العلم ببعض الدين، أو حصل العجز عن بعضه، كان ذلك في حق العاجز عن العلم أو العمل بقوله كمن انقطع عن العلم بجميع الدين أو عجز عن جميعه كالمجنون مثلا، وهذه أوقات الفترات، فإذا حصل من يقوم بالدين من العلماء أو الأمراء أو [ ص: 136 ] مجموعهما، كان بيانه لما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم شيئا فشيئا بمنزلة بيان الرسول لما بعث به شيئا فشيئا، ومعلوم أن الرسول لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به.. "

ويواصل ابن تيمية في توضيح هـذه المسألة فيقول: " .. وكذلك المجدد لدينه، المحي لسنته، لا يبلغ إلا ما أمكن علمه والعمل به، كما أن الداخل في الإسلام لا يمكن حين دخوله أن يلقن جميع شرائعه ويؤمر بها كلها.. وكذلك التائب من الذنوب، والمتعلم، والمسترشد، لا يمكن في أول الأمر أن يؤمر بجميع الدين، ويذكر له جميع العلم، فإنه لا يطيق ذلك، وإذا لم يطقه لم يكن واجبا عليه في هـذه الحال، وإذا لم يكن واجبا لم يكن للعالم والأمير أن يوجبه جميعه ابتداء، بل يعفو عن الأمر والنهي بما لا يمكن علمه وعمله إلى وقت الإمكان.. " [3] .

التالي السابق


الخدمات العلمية