الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الفكر المنهجي عند المحدثين

الدكتور / همام عبد الرحيم سعيد

[1] الموطأ للإمام مالك بن أنس رحمه الله

التعريف بالإمام مالك

أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر ، ينسب إلى ذي أصبح بن عوف، وأمه العالية بنت شريك الأزدية. ولد سنة ثلاث وتسعين من الهجرة. بدأ يطلب العلم صغيرا، فأقبل على محمد بن مسلم بن شهاب الزهري (ت124) وربيعة بن أبي عبد الرحمن (ت136) ولازم نافعا مولى ابن عمر رضي الله عنهما (ت120هـ) وأكثر عنه، وكان مالك يقول: [كنت إذا سمعت حديث نافع عن ابن عمر لا أبالي ألا أسمعه من أحد غيره] . ولقد كان لمالك حلقه في حياة نافع، ولما يبلغ الثلاثين من عمره.

وأما زهد مالك وورعه وإنصافه وشجاعته في الحق فقد كثرت الشواهد عليها: [قال هـارون الرشيد لمالك: يا أبا عبد الله: أريد أن أسمع منك الموطأ. فقال مالك: نعم، يا أمير المؤمنين. فقال لمالك: متى؟ قال مالك: غدا. فجلس هـارون الرشيد ينتظره، وجلس مالك في بيته ينتظره، فلما أبطأ عليه أرسل إليه هـارون فدعاه، فقال له: يا أبا عبد الله، ما زلت أنتظرك منذ اليوم، فقال مالك: وأنا أيضا يا أمير المؤمنين لم أزل أنتظرك منذ اليوم، إن العلم يؤتى ولا يأتي، وإن ابن عمك صلى الله عليه وسلم هـو الذي جاء بالعلم، فإن رفعتموه ارتفع وإن وضعتموه اتضع] [1] . [ ص: 111 ]

تميز الإمام مالك بإتقانه وتوقيه في الرواية وعنايته بكتابه، فهذا الشافعي -رحمه الله- تلميذ مالك يقول: (ما في الأرض كتاب من العلم أكثر صوابا من موطأ مالك بن أنس) [2] . وقال: (وإذا ذكر الأثر فمالك النجم، وإذا جاءك الحديث من ناحية الكوفيين فلم تجد له أصلا عند المدينيين فاضرب به عرض الحائط، ولا تلتفت إليه) [3]

الموطأ ومنهجه

عب الإمام مالك من علم أهل المدينة والوافدين عليها، وتمرس في معرفة تلك البيئة العلمية التي كان الحديث مادتها الرئيسة، وكانت السنة حياتهم اليومية المعاشة. وكان قد ظهر في المدينة عدد من العلماء النابهين المجتهدين الأفذاذ، منهم فقهاء المدينة السبعة الذين لم يجتمع مثلهم في بلد من بلدان العالم الإسلامي. وكان لهؤلاء أثرهم البالغ في إشاعة العلم وإظهاره، فجاء مالك يقطف الثمرة، ويعرف كيف يحتفظ بها، ويصنفها، وييسر الفائدة منها، فصنف كتاب الموطأ، وهو كتاب في الحديث يهتم بالأحكام الشرعية، وقد تميز هـذا الكتاب بأنه كتاب منهجي ذو طريقة واضحة محددة التزمها مالك، وحافظ عليها في الكتاب كله:

1- فقد التزم بذكر الثقات من الرجال، حتى كان ذكر الرجل في الموطأ حكما عليه بالتوثيق. قال ابن معين : كل من روى عن مالك فهو ثقة، إلا عبد الكريم أبا أمية [4] . [ ص: 112 ]

وكان الإمام مالك ينتقي رجاله، ويميز بين الصالح الورع الحافظ والصالح الورع غير الحافظ، وقد ترك الكثير من رجال الحديث المأمونين لما رأى من قلة بصرهم في الحديث. وكان يعتد بالأسانيد المدنية الراسخة، فقد قال الرشيد لمالك: (لم لا نرى في كتابك ذكرا لعلي وابن عباس ؟ فقال: لم يكونا ببلدي، ولم ألق رجالهما) [5] قال الزرقاني : فكأنه أراد ذكرا كثيرا، وإلا ففي الموطأ أحاديث عنهما . قال الكاندهلوي : والأوجه عندي أنه ذكر رواياتهما بعد ذلك، فإنه - رضي الله عنه - كان ينقيه ويختبره عاما فعاما، ولذا ترى الاختلاف في النسخ من الزيادة والنقص [6] .

2- التزم الإمام مالك بذكر الحديث الصحيح وفق مذهبه واجتهاده، ففي الكتاب الأحاديث المتصلة التي حملت أعلى شروط الصحة، وهذه لا جدال في صحتها، والعلماء على قبولها والأخذ بها، وقد دخلت في كتب السنة الصحيحة، وهي ستمائة حديث. وفيه أحاديث لم يتصل سندها بل هـي بلاغات أو مرسلات كان الإمام مالك يقول فيها: (بلغني أن ابن عمر أو أن عمر أو أن أبا هـريرة قال) ويغفل ذكر السند إلى من ذكر بلاغه عنه، أو كان يذكر السند حتى إذا وصل إلى التابعي رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم -وهو المرسل- ومذهب مالك تصحيح هـذه البلاغات والمرسلات، لقربها من عصر النبوة، ولتميز رواتها بالأمانة والعدالة والثقة، ولكن العلماء لم يقبلوا هـذه البلاغات والمرسلات على إطلاقها، [ ص: 113 ] وذهبوا يلتمسون لها طرقا متصلة فتبين لهم أن الإمام مالكا لم ينشط في ذكر هـذه الحلقات، وهي موجودة ومن يبحث عنها يجدها. وهذا ما فعله ابن عبد البر في كتابه "التمهيد" الذي وصل فيه روايات الموطأ.

مثال: عن مالك، أنه بلغه عن جابر بن عبد الله ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من لم يجد ثوبين فليصل في ثوب واحد، ملتحفا به، فإن كان الثوب قصيرا فليتزر به ) [7] هـذا الحديث رواه مالك بلاغا، فأسقط السند بينه وبين جابر، وقد روي متصلا عند غيره:

فأخرجه البخاري في صحيحه قال: حدثنا يحيى بن صالح قال: حدثنا فليح بن سليمان عن سعيد بن الحارث ( قال: سألنا جابر بن عبد الله عن الصلاة في الثوب الواحد. فقال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فجئت ليلة لبعض أمري فوجدته يصلي، وعلي ثوب واحد، فاشتملت به، وصليت إلى جانبه فلما انصرف قال: ما السرى يا جابر؟ فأخبرته بحاجتي. فلما فرغت، قال: ما هـذا الاشتمال الذي رأيت؟ قلت: كان ثوب -يعني ضاق- قال: فإن كان واسعا فالتحف به، وإن كان ضيقا فاتزر به ) [8]

هذا المثل يكشف عن جانب من جوانب منهج الإمام مالك الذي يحتج بالبلاغ والمرسل لما يعلم من ثبوتهما عنده وعند غيره. [ ص: 114 ] والبلاغات والمرسلات التي بقيت في دائرة الضعيف قليلة، وقد بلغ عدد البلاغات والمرسلات في الموطأ مائتين واثنين وعشرين حديثا.

يقول السيوطي : (ما فيه من المراسيل -مع كونها حجة عنده بلا شرط، وعند من وافقه من الأئمة على الاحتجاج بالمرسل- فهي أيضا حجة عندنا، لأن المرسل عندنا حجة إذا اعتضد، وما من مرسل في الموطأ إلا وله عاضد أو عواضد كما سأبين ذلك في هـذا الشرح. فالصواب إطلاق أن الموطأ صحيح لا يستثنى منه شيء، وقد صنف ابن عبد البر (ت463هـ) كتابا في وصل ما في الموطأ من المرسل والمنقطع والمعضل ، قال: وجميع ما فيه من قوله: بلغني، ومن قوله: عن الثقة عنده مما لم يسنده واحد وستون حديثا كلها مسندة من غير طريق مالك، إلا أربعة لا تعرف) [9] ثم ذكرها.

3- لم يقتصر كتاب الموطأ على الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم سواء كانت متصلة أو منقطعة، بل احتوى على طائفة من الآثار الموقوفة على الصحابة والتابعين وأتباع التابعين، فبلغت الموقوفات ستمائة وثلاثة عشر، وأقوال التابعين مائتين وخمسة وثمانين، وكانت أقوال التابعين وأهل المدينة هـدفا مقصودا عند مالك في الموطأ، ويذكر أن (أول من عمل كتابا في المدينة على معنى الموطأ عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ، وعمل ذلك كلاما بغير حديث فأتى به مالكا فنظر فيه فقال: ما أحسن ما عمل، ولو كنت أنا الذي عملت ابتدأت بالآثار، [ ص: 115 ] ثم شددت ذلك بالكلام، ثم إن مالكا عزم على تصنيف الموطأ فصنفه) [10] .

وفيما يلي نموذج كامل من كتاب الموطأ:

مثال:

باب القضاء باليمين مع الشاهد:

قال مالك : عن جعفر بن محمد ، عن أبيه، ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد، ) وعن مالك، عن أبي الزناد ، " أن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب ، وهو عامل على الكوفة : أن اقض باليمين مع الشاهد. "

وعن مالك أنه بلغه أن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار سئلا: هـل يقضى باليمين مع الشاهد؟ فقالا: نعم.

قال مالك: مضت السنة في القضاء باليمين مع الشاهد الواحد. يحلف صاحب الحق مع شاهده. ويستحق حقه، فإن أبى أن يحلف أحلف المطلوب، فإن حلف سقط عنه ذلك الحق، وإن أبى أن يحلف ثبت عليه الحق لصاحبه.

قال مالك: إنما يكون ذلك في الأموال خاصة. ولا يقع ذلك في شيء من الحدود ولا في نكاح ولا طلاق، ولا في عتاقة ولا سرقة، ولا في فرية. فإن قال قائل: فإن العتاقة من الأموال، فقد أخطأ، ليس ذلك على ما قال. ولو كانت ذلك على ما قال لحلف العبد مع شاهده -إذا جاء بشاهد- أن سيده أعتقه، وأن العبد إذاجاء بشاهد على مال من الأموال ادعاه حلف مع شاهده واستحق حقه كما يحلف الحر. [ ص: 116 ]

قال مالك : فالسنة عندنا أن العبد إذا جاء بشاهد على عتاقته استحلف سيده ما أعتقه وبطل ذلك عنه. قال مالك: وكذلك السنة عندنا أيضا في الطلاق، إذا جاءت المرأة بشاهد أن زوجها طلقها أحلف زوجها ما طلقها، فإذا حلف لم يقع عليه الطلاق) [11]

ففي هـذا المثال نرى الإمام مالكا يمزج بين الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم والأثر عن الصحابة والتابعين، ويذكر أقوال علماء أهل المدينة ، ويذكر السنة العملية التي يسير عليها أهل المدينة، كما في قوله: مضت السنة في القضاء باليمين والشاهد الواحد. وفي قوله: وكذلك السنة عندنا أيضا في الطلاق.

قال الشيخ ولي الله الدهلوي في كلام له عن منهج الإمام مالك: (جعل بناء مذهبه على الروايات المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم موصولة كانت أو مرسلة، وبعدها على قضايا عمر ثم على فتاوى ابن عمر - رضي الله عنهما - وبعد ذلك على أقوال فقهاء المدينة كابن المسيب وعروة وقاسم وسالم وسليمان بن يسار وأبي سلمة وأبي بكر بن عمرو بن حزم وعمر بن عبد العزيز وغيرهم) . وقال أيضا: (إن الإمام يعبر عن أقوال الفقهاء السبعة وفقهاء المدينة بقوله: السنة عندنا كذا وكذا. قال الإمام الشافعي : وهذا ليس بإجماع، بل هـو مختار الإمام مالك - رضي الله عنه - ومشايخه [12] [ ص: 117 ]

4- إن كتاب الموطأ يمزج بين الحديث وفقه الحديث. ونرى الإمام مالكا يستنبط ويفرع، وينقل القارئ إلى بيئة السنة والحديث. وهذه ميزة ينفرد بها الموطأ بين كتب السنة الأخرى، إذ أن كتب السنة الأخرى تتضمن مجموعات من النصوص الحديثية المجردة عن الزمان والمكان، بينما يحافظ الموطأ على هـذه العلاقات وينقل طالب العلم إلى معايشة السنة النبوية فيقف على دلالاتها. وبشكل موجز يمكننا المعرفة الحديثية، أو هـو كتاب الثقافة الحديثية، لأن الثقافة لا تقتصر على المعارف بل تحتوي على عناصر نفسية وبيئية، وتتناول تفاعل الناس مع هـذه المعارف عن طريق المواقف وأنماط السلوك.

5- كتاب الموطأ هـو أول كتاب منهجي، فلا غرابة أن نجد هـذا الثناء الكبير على هـذا المصنف حتى قال القاضي أبو بكر بن العربي في مقدمة "عارضة الأحوذي شرح صحيح الترمذي": (اعلموا -أنار الله أفئدتكم- أن كتاب الجعفي - البخاري - هـو الأصل الثاني في هـذا الباب والموطأ هـو الأول واللباب) . [13] [ ص: 118 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية