الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الفكر المنهجي عند المحدثين

الدكتور / همام عبد الرحيم سعيد

[6] التعريف بالإمام الترمذي وبكتابه الجامع أبو عيسى محمد بن عيسى بن سورة السلمي الترمذي : (209-279هـ) .

تلقى العلم في صباه على شيوخ بلدته والقادمين إليه وإلى ما جاورها. وكان إسحاق بن راهوية من أوائل شيوخه. ارتحل فسمع بخراسان والعراق والحرمين ، ولم يرحل إلى مصر والشام [1] اشترك مع البخاري ومسلم في أكثر شيوخهما، فروى عن قتيبة بن سعيد ، وأبي كريب ، وعلي بن حجر ، وتتلمذ للبخاري. وكان يضرب به المثل في الحفظ، إلى جانب ما كان عليه من الورع والاحتياط في الدين والزهد في الدنيا. وكان بصيرا في الحديث ورجاله وعلله.

قال الذهبي في "الميزان": "الحافظ العلم أبو عيسى الترمذي، صاحب الجامع، ثقة، مجمع عليه، ولا التفات إلى قول أبي محمد بن حزم في الفرائض: إنه مجهول، فإنه ما عرف ولا درى بوجود الجامع ولا العلل التي له" . كف بصره بعد ما كبر. وكانت وفاته في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين.

أما مصنفاته، فأشهرها كتابه (الجامع) المعروف بسنن الترمذي، وكتاب (العلل الكبير) و (شمائل النبي صلى الله عليه وسلم ) . [ ص: 155 ]

منهجه في الجامع

يعتبر كتاب الترمذي (الجامع) أحد الكتب الستة الأصول المشهورة. وهو كتاب جامع لم يقتصر على أحاديث الأحكام كما فعل أبو داود والنسائي ، بل حوى أبواب الحديث المختلفة؛ ففيه الفضائل والمناقب والفتن والزهد والأدب والتفسير والسير. وقد بلغت كتبه ستة وأربعين كتابا.

وقد تميز كتاب الترمذي بكتاب العلل الصغير في آخره، وهذا الجزء أشبه ما يكون بالمقدمة الكاشفة عن المنهج. وقد شرح الإمام ابن رجب هـذا الجزء من خلال شرحه للكتاب كله، وجلى مقاصده، وكشف غوامضه، وأظهر روعة منهج الترمذي في جامعه.

وبالرغم من تلمذة الترمذي للإمام البخاري ، إلا أنه سلك منهجا غير منهجه، وهذا من مميزات ذلك العصر الذي كان الاجتهاد أبرز سماته وأوضح علاماته؛ فلكل عالم منهجه، ولكل شيخ طريقته.

ويتلخص منهج الإمام الترمذي بأنه معلل، وبيان هـذا: أن رواة الحديث يتفاوتون في مرتبهم من العدالة والضبط، وهي طبيعة البشر في التفاوت والتفاضل. وقد رأينا الإمام البخاري ينظر إلى الفئات العليا من هـؤلاء الرواة فيجعل اعتماده على الفئة المتميزة بقوة حافظتها وسمو عدالتها، ويتبعه في ذلك الإمام مسلم ، وإن كان قد عوض نزوله عن رتب البخاري بكثرة الروايات وتأييدها، مع أنه يبقى في دائرة انتقاء الصحيح حتى وهو يروي عن بعض الضعفاء، فهو لا يروي عنهم إلا ما صح عنده. [ ص: 156 ]

وأما الإمام الترمذي فقد توجه إلى فئة من الرجال ليسوا بالمتروكين ولا الكذابين ولا فاحشي الخطأ، ولكنهم من أهل الصدق والستر وتعاطي العلم، وبعضهم لا يعتمد عليه لو انفرد في حديث، ولكنهم يصلحون للاحتجاج إذا وجدوا من يؤيدهم ويعضدهم؛ وبذلك يكون الترمذي قد فتح الباب لتدارك ما لم يتداركه غيره، فقد كان المنهج قبل الترمذي يقوم على تقسيم الحديث إلى مستويين صحيح وضعيف. والصحيح مقبول والضعيف مردود كما في الشكل (أ) .



ولكن العلماء

لاحظوا أن الخط الفارق بين الصحيح والضعيف خط اجتهادي،

فرب رجل من أهل الصحيح ينزل أحيانا إلى دائرة الضعيف، ورب

رجل من أهل الضعيف يرقى أحيانا إلى دائرة الصحيح.

ومن رجال الضعيف من يقترب من رجال الصحيح، وهناك فئة منهم

يحتاجون إلى متابع يتابعهم أو شاهد يؤيدهم.

وقد بدأ الإمام الشافعي من خلال كلامه عن المرسل بتأسيس هـذا المنهج،

إذ المرسل حديث ضعيف لكنه يرقى إلى رتبة الاحتجاج بقرينة خارجة عنه

فيكون محتجا به، ولا ينتهض إلى رتبة المتصل. وقد مارس الإمام مسلم

هذا المنهج في دائرة الصحيح ليأخذ الحديث من أدنى رتبة الصحة إلى أعلاها؛ وبذلك يكون الترمذي صاحب منهج جديد، لولاه لرد كثير من الأحاديث. ويبدو أن هـذا المنهج كان المرحلة الثانية بعد [ ص: 157 ] البخاري ومسلم ، وسار عليه أبو داود والنسائي ، ولكن الترمذي أمعن في تأصيله؛ فقد لاحظ الترمذي أن بين الصحيح والضعيف رتبة يتداخل فيها الصحيح والضعيف، وأصحابها ممن قل ضبطهم، واضطرب حديثهم، فكانوا موضع العناية والدراسة، وكما أنه من الخطأ أن يقبل حديثهم فإنه من الخطأ أن يرد حديثهم، كما في الشكل (ب) .


ولقد شمر الترمذي عن ساعد الجد والبحث، وعدل حال هـؤلاء

بقرائن وشواهد ومتابعات، فنقلوا من دائرة الضعيف إلى دائرة

الاحتجاج كما في الشكل (ج) .

وهكذا ظهر اصطلاح الحسن عند الترمذي ليكون مقابلا لغير المحتج به. فالحديث إذا كان في أعلى درجات الاحتجاج فهو:

حسن + صحيح = حسن صحيح.

وإذا كان في أدنى درجات الاحتجاج فهو: حسن. [ ص: 158 ]

وقد عرف الترمذي مصطلحه هـذا، ونظر إلى الحديث من الأدنى إلى الأعلى، فيما نظر البخاري ومسلم من الأعلى إلى الأدنى، ونظر مسلم من أدنى الصحيح إلى أعلاه كما في (أ) ، (ب) ، (ج) .



ولقد كان الاتجاه قبل الإمام الترمذي إلى تحديد الصحيح وتعريفه، باعتباره مقصود علم الحديث رواية ودراية، وكذلك فعل الإمام الشافعي في "رسالته"، ونسج البخاري ومسلم على منواله، ولكن الأمر تطور على يد الترمذي ليصبح المقصود (المعمول به من الحديث) [2] . وهو أعم من الصحيح، ويقصد بذلك الحسن. لذا فقد عرف الإمام الترمذي الحسن، [ ص: 159 ] فقال: وما ذكرنا في هـذا الكتاب من حديث حسن، فإنما أردنا به ما حسن إسناده عندنا، وكل حديث يروى لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا يكون شاذا، ويروى من غير وجه فهو عندنا حديث حسن [3] .

يضاف إلى هـذا التعريف ما ذكره الترمذي من عدم الاشتغال بالراوية عن المغفل الذي يخطئ كثيرا؛ كما جاء في قوله: فكل من كان متهما في الحديث بالكذب، أو كان مغفلا يخطئ الكثير، فالذي اختاره أكثر أهل الحديث من الأئمة ألا يشتغل بالرواية عنه [4]

وبمجموع هـذه الحدود والقيود يكون الحسن عند الترمذي: كل حديث لا يكون في إسناده من يتهم بالكذب، ولا من كان مغفلا يخطئ الكثير، ولا يكون شاذا، ويروى من غير وجه نحو ذلك. وهذا التعريف يبين الحد الأدنى ولا يتوقف عند الحسن فقط، بل يشمل الصحيح، وبهذا يمكننا أن نفسر قول الترمذي " حسن صحيح " بأنه يقصد الحسن في أعلى مراتبه كحديث: " إنما الأعمال بالنيات " .

قال الترمذي: (حدثنا محمد بن المثنى حدثنا عبد الوهاب الثقفي عن يحيى بن سعيد عن محمد بن إبراهيم عن علقمة بن وقاص الليثي عن عمر بن الخطاب قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنما الأعمال بالنية، وإنما لامرئ ما نوى فمن كانت هـجرته إلى الله وإلى رسوله فهجرته إلى الله وإلى رسوله ومن كانت هـجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هـاجر إليه ) . قال أبو عيسى: هـذا حديث حسن صحيح، وقد روى [ ص: 160 ] مالك بن أنس وسفيان الثوري وغير واحد من الأئمة هـذا عن يحيى بن سعيد ، ولا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سعيد الأنصاري [5]

فهذا الحديث حديث صحيح أخرجه الإمام البخاري في صحيحه وأخرجه الإمام مسلم ، وهو حديث غريب لم يرد إلا من طريق واحد عن يحيى بن سعيد الأنصاري. وقد وصفه الترمذي بقوله: حسن صحيح ، كما ورد في النص الآنف الذكر. وتصرف الترمذي هـذا يدل على أن الحسن عنده يدخل في دائرة الصحيح.

الترمذي يعتمد منهج الباب

ولا ينظر الإمام الترمذي إلى الحديث من خلال رواية واحدة فقط، بل ينظر إليه من خلال الباب؛ فهو يتعامل مع الموضوع الواحد وما فيه من أحاديث متصلة ومنقطة، وأقوال الصحابة والتابعين ومذاهب الأئمة المشهورين.

وصف ابن العربي لكتاب الترمذي

وصف الإمام أبو بكر بن العربي كتاب الترمذي بقوله: (وليس فيهم مثل كتاب أبي عيسى حلاوة مقطع، ونفاسة منزع، وعذوبة مشرع، وفيه أربعة عشر علما، وذلك أقرب إلى العمل وأسلم: أسند، وصحح، وضعف، وعدد الطرق، وجرح، وعدل، وأسمى، وأكنى، ووصل، وقطع، وأوضح المعمول به، والمتروك، وبين اختلاف العلماء في الرد والقبول لآثاره، وذكر اختلافهم في تأويله، وكل علم من هـذه العلوم [ ص: 161 ] أصل في بابه وفرد في نصابه، فالقارئ له لا يزال في رياض مونقة، وعلوم متفقة متسقة، وهذا شيء لا يعمه إلا العلم الغزير والتوفيق الكثير، والفراغ والتدبير) [6]

الترمذي يسجل مذاهب الفقهاء وأصولهم

وقد تميز جامع الترمذي بذكر مذاهب علماء الأمصار، ونجد فيه فقه هـؤلاء العلماء في كل مسألة ذكرها. وبين الترمذي طرقه إلى هـؤلاء الفقهاء، فنراه يقول في "العلل" آخر "الجامع": (وما ذكرنا في هـذا الكتاب من اختيار الفقهاء، فما كان فيه من قول سفيان الثوري فأكثره ما حدثنا به محمد بن عثمان الكوفي حدثنا عبيد الله بن موسى عن سفيان، ومنه ما حدثني به أبو الفضل مكتوم بن العباس الترمذي . حدثنا محمد بن يوسف الفريابي عن سفيان. وما كان من قول مالك ابن أنس فأكثره ما حدثنا به إسحاق بن موسى الأنصاري ، حدثنا معن بن عيسى القزاز ، عن مالك بن أنس. وما كان فيه من أبواب الصوم فأخبرنا به أبو مصعب المدني عن مالك بن أنس) [7] ... وذكر أسانيده إلى كل من ابن المبارك والشافعي وأحمد بن حنبل .

قال الذهبي : (في الجامع علم نافع وفوائد غزيرة ورءوس المسائل، [ ص: 162 ] وهو أحد أصول الإسلام، لولا ما كدره بأحاديث واهية بعضها موضوع، وكثير منها في الفضائل) [8]

منزلة الجامع عند العلماء

لا ريب أن كتاب الترمذي الجامع منفرد في منهجه، مستدرك على من سبقه، محتو على كثير من رءوس المسائل الفقهية؛ ولكن بعض العلماء وجهوا نقدا شديدا لكتاب الترمذي خلاصته: أنه متساهل في التصحيح والتحسين، والأخذ عن الضعفاء والمتروكين. فقد حمل الإمام الذهبي على تساهل الترمذي، حيث خرج عددا من الأحاديث وحكم عليها بقوله "حسن صحيح" أو بقوله "حسن".

من ذلك روايته حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، ( قال الذهبي: قال ابن معين : ليس بشيء. وقال الشافعي وأبو داود : ركن من أركان الكذب، وضرب أحمد على حديثه. وقال الدارقطني وغيره: متروك. وقال أبو حاتم : ليس بالمتين. وقال ابن حبان : له عن أبيه عن جده نسخة موضوعة. وأما الترمذي فروى من حديثه ( الصلح جائز بين المسلمين ) وصححه، فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي) [9]

هذا ما خلص إليه الذهبي، وهي خلاصة فيها تجن كبير على الإمام الترمذي، ويا ليت الذهبي ذكر قول البخاري في كثير بن عبد الله بعد سؤال الترمذي عنه: ( قال الترمذي: قلت لمحمد في حديث كثير بن [ ص: 163 ] عبد الله في الساعة التي ترجى يوم الجمعة: كيف هـو؟ قال: هـو حديث حسن إلا أن أحمد كان يحمل على كثير يضعفه. وقد روى عنه يحيى بن سعيد الأنصاري ) [10]

قال ابن رجب في شرح علل الترمذي:

وقد خرج (أي الترمذي ) حديث كثير بن عبد الله المزني، ولم يجمع على ترك حديثه، بل قد قواه قوم، وقدم بعضهم حديثه على مرسل ابن المسيب [11]

ويبدو لي أن الحديث قد ثبت عند الترمذي من غير رواية كثير، فكان التصحيح بناء على رواياته الأخرى، وهذا المنهج معروف عند البخاري ومسلم ، فهما يصححان الحديث باعتبار روايات أخرى ثابتة من غير طريقهما؛ فقد أخرجه الإمامان أحمد وأبو داود .

والقليل النادر الذي ينتقد به الترمذي لا يحمل المنصف على رد تصحيحه وإبطال أحكامه، ولا بد من النظرة الأشمل، فهو مجتهد في الجرح والتعديل والتصحيح والتضعيف، وله باع في ذلك لا يقل عن باع الإمام البخاري. [ ص: 164 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية