الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
الجرح والتعديل

يقول الإمام الشافعي - رحمه الله - في الرسالة: "ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا؛ منها:

أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، وأن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه لا يحدث به على المعنى، لأنه إذا حدث به على المعنى وهو غير عالم بما يحيل معناه، لم يدر لعله يحيل الحلال إلى الحرام، وإذا أداه بحروفه فلم يبق وجه يخاف فيه إحالته للحديث، حافظا إن حدث من حفظه، حافظا لكتابه إن حدث من كتابه، إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم، بريا من أن يكون مدلسا [1] يحدث عمن لقي ما لم يسمع منه، أو يحدث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما يحدث الثقات خلافه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون هـكذا من فوقه ممن حدثه، حتى ينتهي بالحديث موصولا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو إلى من انتهى به إليه دونه، لأن كل واحد منهم مثبت لمن حدثه مثبت على من حدث عنه، فلا يستغني في كل واحد منهم عما وصفت) [2] [ ص: 81 ]

بهذه العبارة الموجزة البليغة حدد الإمام الشافعي شروط قبول رواية الراوي. وفيما يلي شرح كلامه وبيانه:

قوله: (لا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا) فيه إشارة منه إلى تقسيم الحديث إلى قسمين: خبر العامة، وخبر الخاصة.

أما خبر العامة: فهو المتواتر الذي بلغ رواته كثرة لا يحصرها حاصر، فهو ذائع منتشر معلوم بداهة؛ وذلك كآيات القرآن الكريم، وكثير من الأحاديث العملية كعدد الركعات وأنصبة الزكاة؛ فهذه أخبار عامة لا تتوقف على خبر إنسان بعينه، بل الأمة كلها نقلت مثل هـذه الأخبار عن الأمة كلها. ومثل هـذه الأخبار لا تدخل في نطاق علم الدراية من جهة البحث عن رواتها وعدالتهم وضبطهم. وهذا النوع يطلق عليه اسم العلم الضروري أو القطعي، ومنكره جاحد كافر بإجماع الأمة.

وأما خبر الخاصة: فهو خبر تناقله الأفراد أو الآحاد ولم تنقله عامة الناس، وتبقى خصوصيته من جهة اقتصار معرفته على فئة محصورة، فلم يكن أحد من الصحابة يجهل عدد ركعات صلاة الظهر؛ لأن خبرها خبر عامة، لكنه قد يجهل نصيب الجدة في الميراث حتى يأتي واحد من الصحابة عنده علم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذه المسألة، فهذا خبر خاصة. وهذا النوع من الخبر هـو ما يطلق عليه خبر الآحاد . وفيما يستغني خبر العامة عن البرهان على صدق رواته وعدالتهم؛ اكتفاء بكثرتهم، واستحالة اجتماعهم على الكذب والخطأ، فإن خبر الآحاد - خبر الخاصة - لا يثبت إلا بالبرهان والدليل، ومن هـنا كان العلم المستفاد من خبر الآحاد علما برهانيا - وهو المعروف بالعلم الظني - وليس المقصود بالظن هـنا مجرد [ ص: 82 ] الاشتباه، وإنما هـو: كل علم يحتمل الصدق وغيره، وقد ترجع فيه جانب الصدق بالبرهان والإثبات عن طريق تعديل الناقلين وتزكيتهم.

مثال: قال الإمام البخاري : (حدثنا أبو النعمان عارم بن الفضل ، قال: حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر ، عن يوسف بن ماهك ، عن عبد الله بن عمرو قال: تخلف عنا النبي صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها، فأدركنا وقد أرهقتنا الصلاة، ونحن نتوضأ فجعلنا نمسح على أرجلنا فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار - مرتين أو ثلاثا-) [3] . هـذا الخبر لا نستفيد منه القطع بمجرد سماعه، بل يحتمل الصدق وغيره بأن يكون صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لم يصدر. ومن سمع به لأول مرة لا بد أن يسأل أسئلة عديدة حتى يطمئن إلى الحديث، منها:

* من أبو النعمان عارم بن الفضل؟ هـل هـو عدل في دينه وأمانته؟ هـل هـو متقن لخبره؟ من من العلماء يشهد له بالقبول والاحتجاج؟

* من أبو عوانة؟ هـل هـو عدل؟ ما دليل ذلك؟

وهكذا تدور أسئلة حول كل راو من هـؤلاء الرواة، ومن خلال البحث والتقصي ومراجعة كتب الرجال يتبين لنا أن أفراد السند ثقات مرضيون في دينهم وفي ضبطهم؛ فيكون الخبر صحيحا، لكن تبقى بعض الاحتمالات التي تحتاج إلى إجابات مثل: كيف نطمئن إلى سلامة الخبر من خطأ الرواة وأوهامهم؟

هل روي الخبر من طرق أخرى غير عبد الله بن عمرو أو يوسف بن ماهك؟ وبعد البحث والتقصي يتبين لنا سلامة الخبر من الأخطاء [ ص: 83 ] والأوهام، ونكشف عن طرق أخرى للحديث.

إن احتمال الصواب والصدق يزداد ولكنه لا يصل إلى درجة القطع حتى تتكاثر علينا الطرق والروايات كثرة لا تحصر، عندئذ لا داعي للبحث في صفات الرواة وعدالتهم وضبطهم، وهذا لا يكون إلا في حالة التواتر .

التالي السابق


الخدمات العلمية