الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
كيف يعرف الضابط؟

إن تمييز الضابط من غيره أمر على درجة بالغة من الدقة والخفاء، ولا يقدر على إدراكه إلا كبار النقاد من المحدثين. ولقد ذكر الإمام الشافعي معيار ذلك فقال: ( إذا شرك أهل الحفظ في الحديث وافق حديثهم) . وبيان هـذا المعيار يتحقق إذا أدركنا أن كل عالم من علماء الحديث يلقي علمه إلى طائفة من التلاميذ، وهؤلاء التلاميذ متفاوتون في القدرات والأحوال العلمية؛ فمنهم المتفرغ لطلب العلم الدائم الحضور في مجلس الشيخ، ومنهم صاحب العمل أو التجارة الذي لا يحضر إلا لماما، ومنهم من جالس شيخه من بداية حياته العلمية، ومنهم من لحق الشيخ في أواخر حياته العلمية، بل منهم من أدرك الشيخ وهو هـرم أو مختلط. ومن التلاميذ من كان يحفظ الحديث عن ظهر قلب، ومنهم من كان يكتب، ومنهم من كان يتقن الكتابة، ومنهم من لا يتقن، كل هـذه الفوارق تجعل التلاميذ درجات في الأخذ والإتقان. ولا يستقيم الأمر إلا بمعرفة هـذه الدرجات.

ولتقريب هـذا الأمر نمثل له بمثال رياضي؛ لأن علم الحديث قريب من العلوم الرياضية. لنفرض أن الشيخ حدث بعشرة أحاديث، وكان له خمسة من التلاميذ، وأن التلاميذ تفاوتوا في سماع هـذه الأحاديث، فبعضهم روى أكثر من غيره. وكان ذلك على النحو التالي: [ ص: 94 ]



إذا عرفنا أن الرواة عن شيخ قد يتفقون في رواية حديث معين تمام الاتفاق، وقد يختلفون في الرواية زيادة ونقصا، وقد يكون الاختلاف شكليا في كلمة أو حرف، وقد يكون موضوعيا في أمر يجعل الروايات متناقضة. وقد مثلنا لهذه الحالة بـ (ا) التي تعني التوافق مع آخر، وبـ (r) الذي يعني الاختلاف عن الآخرين.

فالحديث (1) رواه كل من (أ) ، (ب) ، ولكنهما لم يتفقا ولم يروه آخر يؤيد أحدهما، فكانت العلامة (r) لكل واحد.

والحديث (2) رواه (ج) (ه) برواية واحدة، واختلف عنهما (ب) ، فكانت علامة الاتفاق (ا) لكل من (ج) ، (د) ، وكانت علامة الاختلاف لـ (ب) .

والحديث (3) اتفق عليه (ج) ، (د) ، (ه) ، واختلف (أ) عنهم.

والحديث (4) اتفق عليه (د) ، (ب) . [ ص: 95 ]

وباستعراض الموافقات والاختلافات يتبين لنا ما يلي:

1) لقد كان التلميذ (ه) صاحب الروايات الأكثر، ولكنه خالف في حديثين.

2) لقد كان (د) صاحب الموافقات التامة، إلا أنه انفرد بالحديث (6) ، ولم يروه غيره، وليس فيه موافقة ولا مخالفة.

3) لقد كثرت مخالفات التلميذ (ب) .

فنخلص إلى أن التلميذ (د) هـو أضبط الرواة عن ذلك الشيخ، وبذلك يكون هـو المعيار الذي يقاس عليه غيره. وانفراده في الحديث (6) لا يقدح في هـذا الحديث، لما ثبت من حفظه وإتقانه.

ومن توافرت فيه هـذه الصفات فهو العدل في دينه، الضابط لحديث، والمختص ببحث هـذه الصفات ومتابعتها هـو علم الجرح والتعديل. ووجهة هـذا العلم البحث في أفراد الرواة، والوصول إلى أحكام عامة حول كل واحد منهم والرواة يختلفون في درجاتهم في الجرح والتعديل .

قال ابن أبي حاتم في كتاب الجرح والتعديل: (ووجدت الألفاظ في الجرح والتعديل على مراتب شتى، وإذا قيل للواحد إنه ثقة، أو متقن ثبت، فهو ممن يحتج بحديثه. وإذا قيل له: إنه صدوق أو محله الصدق، أو لا بأس به، فهو ممن يكتب حديثه وينظر فيه، وهي المنزلة الثانية. وإذا قيل: شيخ، فهو بالمنزلة الثالثة، يكتب حديثه وينظر فيه، إلا أنه دون الثانية. وإذا قيل: صالح الحديث، فإنه يكتب حديثه للاعتبار. وإذا أجابوا في الرجل بلين الحديث فهو ممن يكتب حديثه [ ص: 96 ] وينظر فيه اعتبارا. وإذا قالوا: ليس بقوي، فهو بمنزلة الأولى في كتبه حديثه، إلا أنه دونه. وإذا قالوا: ضعيف الحديث فهو دون الثاني، لا يطرح حديثه يعتبر به. وإذا قالوا: متروك الحديث أو ذاهب الحديث أو كذاب، فهو ساقط الحديث لا يكتب حديثه، وهي المنزلة الثالثة) [1]

وهكذا فإننا نجد ابن أبي حاتم يجعل مراتب الجرح والتعديل ثلاث مراتب:

الأول: الثقة الحجة .

الثاني: مرتبة من يكتب حديثه وينظر فيه، وهي على درجات.

الثالثة: المتروك والكذاب.

ونلاحظ تفصيله في المرتبة الثانية باعتبارها تشمل قطاعا عريضا من الرواة، ولما في هـذه المرتبة من صعوبة الحكم.

أما الإمام ابن حجر ، فقد جعل مراتب الجرح والتعديل ثنتي عشرة مرتبة، وهي على النحو التالي:

الأولى: الصحابة.

الثانية: من اكد مدحه إما بأفعل: كأوثق الناس، أو بتكرير الصفة لفظا: كثقة ثقة، أو معنى: كثقة حافظ.

الثالثة: من أفرد بصفة كثقة، أو متقن، أو ثبت، أو عدل. [ ص: 97 ]

الرابعة: من قصر عن درجة الثالثة قليلا، وإليه الإشارة بصدوق لا بأس به، أو ليس به بأس.

الخامسة: من قصر عن الرابعة قليلا، وإليه الإشارة بصدوق سيئ الحفظ، أو صدوق يهم، أو له أوهام، أو يخطئ، أو تغير بأخرة، ويلتحق بذلك من رمي بنوع من البدعة كالتشيع والقدر والإرجاء والتجهم، مع بيان الداعية من غيره.

السادسة: من ليس له من الحديث إلا القليل، ولم يثبت فيه ما يترك حديثه من أجله، وإليه الإشارة بلفظ مقبول؛ حيث يتابع، وإلا فلين الحديث.

السابعة: من روى عنه أكثر من واحد، ولم يوثق، وإليه الإشارة بلفظ مستور أو مجهول الحال.

الثامنة: من لم يوجد فيه توثيق معتبر، ووجد فيه إطلاق الضعف، ولو لم يفسر، وإليه الإشارة بلفظ: ضعيف.

التاسعة: من لم يرو عنه غير واحد، ولم يوثق، وإليه الإشارة بلفظ: مجهول.

العاشرة: من لم يوثق البتة، وضعف مع ذلك بقادح، وإليه الإشارة بمتروك، أو متروك الحديث، أو واهي الحديث أو ساقط.

الحادية عشر: من اتهم بالكذب. [ ص: 98 ]

الثانية عشرة: من أطلق عليه اسم الكذب والوضع [2]

ويلاحظ أن الإمام ابن حجر وسع المراتب وفصلها، وهي لا تعدو ما ذكرناه عن مراتب ابن أبي حاتم:

الأولى: الثقة الحجة، وهي المراتب الثلاث الأولى.

الثانية: من يكتب حديثه وينظر فيه، وهي تتراوح بين الصدوق إلى مستور الحال.

الثالثة: الواهي والمتروك من الثامنة حتى الثانية عشر. [ ص: 99 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية