الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
(و) طرق تحمل الرواية وأدائها:

تنوعت طرق تحمل الرواية وأدائها عند المحدثين، ونقصد بالتحمل: الأخذ، أي تلقي التلميذ عن شيخه، ونقصد بالأداء: الإعطاء، أي دفع الحديث من الشيخ إلى التلاميذ. ولقد تطورت هـذه الطرق وتشعبت تبعا للحاجات والأحوال التعليمية. ويمكن إجمالها بما يلي:

1- السماع من الشيخ: وذلك بأن يحدث الشيخ بلفظه، سواء أأملي على تلاميذه، أم تحدث من غير إملاء. وسواء أكان الحديث من كتابه أم من حفظه. وهذا النوع أرفع الأقسام عند جماهير المحدثين [1] ويقول التلميذ إذا أراد الرواية عن شيخه: سمعت، أو حدثنا، أو حدثني. وبعض العلماء يقول: (أخبرنا) وإن كانت هـذه اللفظة تستعمل في الغالب للنوع الثاني وهو العرض.

2- العرض أو القراءة على الشيخ: وصورتها أن يقرأ التلميذ حديث الشيخ على الشيخ نفسه، أو أن يقرأ آخر والتلميذ يسمع. [ ص: 73 ] وسواء أكانت القراءة من الكتاب أم من الحفظ، وسواء أكان الشيخ يحفظ ما يقرأ عليه، أم يمسك الأصل، وينظر فيه فالأمر واحد. ويلاحظ فيها إقرار الشيخ بأن ما قرأه التلميذ هـو حديثه أو كتابه. وقد فضل بعض العلماء العرض على السماع من لفظ الشيخ، ومنهم أبو حنيفة ومالك . وذهب أكثر علماء الحجاز والكوفة إلى التسوية بين السماع والعرض، وهو مذهب البخاري ، وذهب ابن الصلاح إلى ترجيح السماع. ويقول التلميذ إذا عرض: "قرأت على فلان" أو" قرئ على فلان وأنا أسمع فأقر به". والمشهور عن الإمام مسلم بن الحجاج وجمهور أهل المشرق إفراد لفظة "أخبرنا" للعرض، ومنع كلمة "حدثنا" [2] . وقد ذهب معظم الحجازيين والكوفيين والزهري ومالك وسفيان بن عيينة ويحيى بن سعيد القطان إلى إطلاق: (حدثنا، وأخبرنا، وأنبأنا) وهو مذهب الإمام البخاري [3]

3- المكاتبة: وهي أسلوب من أساليب التحمل: صورتها أن يكتب كتابا ثم يرسله إلى تلميذه، أو إلى من يسأله عن ذلك الأمر، ويتضمن هـذا الكتاب أحاديث معينة، وقد ظهر هـذا النوع من أنواع التحمل في وقت مبكر. أخرج الرامهرمزي بسنده عن قتادة قال: كتبنا إلى إبراهيم النخعي نسأله عن الرضاع ، فكتب يذكر أن شريحا حدث أن عليا وابن مسعود كانا يقولان: يحرم من الرضاع قليله وكثيره، وكان في [ ص: 74 ] كتابه أن أبا الشعثاء المحاربي حدثه أن عائشة حدثته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تحرم الخطفة والخطفتان [4]

وعن أيوب قال: كتب إلى نافع عن ابن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا تقيمن الرجل ثم تقعد في مقعده ) [5] . وعن الأوزاعي قال: كتب إلي قتادة قال:

( حدثني أنس بن مالك أنه صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر فكانوا يستفتحون بالحمد لله رب العالمين، لا يذكرون بسم الله الرحمن الرحيم في أول قراءة ولا آخرها ) [6]

وقد ذكر الرامهرمزي طائفة كبيرة من هـذه الكتب. ونلاحظ أن الراوي يقول: (كتب لي...) فإذا كان التلميذ أو المرسل إليه على يقين من كتاب الشيخ أو المرسل ولا يكون شاكا فيه فإن له أن يرويه عنه. وقد روى الرامهرمزي مناظرة جميلة بين إسحاق بن راهوية والشافعي - وأحمد بن حنبل حاضر- في جلود الميتة إذا دبغت. فقال الشافعي: دباغها طهورها. فقال إسحاق: ما الدليل؟ فقال: حديث الزهري عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس ، عن ميمونة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بشاة ميتة، فقال: هـلا انتفعتم بجلدها؟ ) . فقال إسحاق: ( حديث ابن عكيم : كتب إلينا النبي صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهر لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب ) أشبه أن يكون ناسخا لحديث ميمونة، لأنه قبل موته بشهر، فقال الشافعي: هـذا كتاب، وذاك سماع، فقال إسحاق: [ ص: 75 ] إن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى كسرى وقيصر . وكان حجة عليهم عند الله. فسكت الشافعين، فلما سمع ذلك أحمد بن حنبل ذهب إلى حديث ابن عكيم وأفتى به [7] .

وقد يصاحب الكتابة إجازة من الشيخ بأن يقول لتلميذه: هـذا كتابي أجيز لك روايته عني، وقد تكون الكتابة عارية عن الإجازة، أو مقترنة بها.

4- الإجازة: وهي أسلوب من أساليب تحمل الرواية ، ظهر مع تكاثر الكتب والنسخ على نحو لم يعد طالب العلم قادرا على سماعها أو قراءتها على شيوخه [8] . فأصبح الشيخ يدفع كتابه إلى تلميذه أو يأذن له برواية الكتاب إذا وجده، وكان الكتاب صحيحا مقابلا على الأصول، فهذا الإذن بالرواية يسمى الإجازة . وهذا الأسلوب تطور عن المناولة والكتابة التي كانت تتعلق بحديث أو بضعة أحاديث، لتصبح الإجازة تتناول كتبا قد تحتوي على عشرات الألوف من الأحاديث. ولما كانت الإجازة هـي الإذن برواية حديث الشيخ أو كتابه دون قراءته عليه أو سماعه منه فليس كل أحد قادرا على أخذ العلم من الكتب؛ بل لا بد أن يكون ماهرا عالما حتى لا يقع في الوهم والخطأ. قال ابن عبد البر في (جامع بيان العلم [ ص: 76 ] وفضله) : ( الإجازة لا تجوز إلا لماهر بالصناعة - بالحديث - حاذق بها، يعرف كيف يتناولها، وتكون في شيء معين معروف لا يشكل إسناده) [9] ويضاف عليه ولا يشكل متنه أيضا.

وإن الناظر في كتب الأقدمين من أهل المصطلح كالرامهرمزي يجد أن الإجازة كانت مقترنة بالمناولة . ولم تكن الإجازة على النحو الذي شاع في العصور المتأخرة، حتى أصبح الشيخ يجيز رواية كتبه للمجاهيل من الفقراء، أو أهل العلم، أو أهل بلدة كذا، كما أصبح يجيز للمعدوم كقوله: أجزت لأبناء فلان الذين سيولدون له أو لأبناء أبنائه؛ ومن فضل الله تعالى أن علم الرواية الأول الذي آل إلى المصنفات المعتبرة لم يعرف مثل هـذا التسيب في موضوع الإجازة

وأما الصيغة التي يعبر بها الراوي عن الإجازة؛ فيمكن أن يقول: أنبأنا أو أخبرنا، وتختصر هـكذا (أنا) ، وكان الأوزاعي يخصص الإجازة بقوله خبرنا [10] . وقد يستخدم الراوي كلمة (عن) .

5- المناولة: أن يدفع الشيخ إلى تلميذه أو الراوي عنه كتابه وفيه حديث أو أكثر.

وقد بوب البخاري في صحيحه بابا قال فيه: (باب ما يذكر في المناولة، وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان) " وقال أنس : نسخ عثمان المصاحف فبعث بها إلى الآفاق " . ورأى عبد الله بن عمر ويحيى بن سعيد ومالك ذلك جائزا، واحتج بعض أهل الحجاز في المناولة بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حين كتب لأمير السرية كتابا ( وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان ) [ ص: 77 ] « كذا وكذا" فلما بلغ ذلك المكان قرأه على الناس، وأخبرهم بأمر النبي صلى الله عليه وسلم » [11]

ويلاحظ أن المناولة تختلف عن المكاتبة بما فيها من مشافهة بالإذن [12] ، وبما فيها من دفع الكتاب مباشرة بدون واسطة، مما يجعل الرواية بها أوثق. ويعبر الراوي بالمناولة عن روايته بقوله: أنبأنا، أو أخبرنا، أو (عن) .

6- الوجادة: مشتقة من فعل وجد يجد، والمقصود بها أن يعثر المحدث على كتاب ما، مثاله: رواية عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ، عن أبيه، عن جده، إنما هـي كتاب وجده، ولذلك ضعفه علي بن المديني . وقال ابن معين : (هو ثقة، وليس بذاك، بل كتاب أبيه عن جده) . وقال الذهبي : (وبعضهم تعلل بأنها صحيفة رواها وجادة، ولهذا تجنبها أصحاب الصحيح، والتصحيف يدخل على الرواية من الصحف بخلاف المشافهة بالسماع) [13]

ويعبر الراوي عما تحمله وجادة بقوله: وجدت بخط فلان: حدثنا فلان. وقد يقول: قرأت بخط فلان، أو في كتاب فلان بخطه [14] . وأما إذا أراد أن يستعمل: قال فلان - وهذا يعني الجزم بنسبته القول إليه - فلا بد من مراعاة ما يلي:

[1] أن يثق بأن الخط هـو خط فلان هـذا الذي تنسب الصحيفة إليه.

[2] ألا يتوهم من يسمعه يقول: (قال فلان) أنه سماع مباشر، مع [ ص: 78 ] العلم أنها صحيفة لم يأخذها عن طريق الاتصال المباشر، وإنما وجدها في مكان ما.

وهذا النوع من أنواع تحمل الرواية لا تقوم به الحجة، ولا يلزم إلا من وثق بأن هـذا الخط هـو خط فلان، واطمأن إلى صحة نسبتها إليه. وهكذا فإن الصحيفة المروية بالوجادة قد توجب العمل على المطمئن لصحتها ولا توجبه على غيره [15]

7- الإعلام: وذلك بأن يعلم الراوي طالب الحديث بأن هـذا الكتاب أو هـذا الحديث سمعه من فلان؛ دون أن يقول له: اروه عني، وقد روي عن ابن جريج وطوائف من المحدثين جواز الرواية والتحمل عن هـذه الطريق، ثم قال ابن الصلاح : (والمختار ما ذكر عن غير واحد من المحدثين وغيرهم أنه لا تجوز الرواية بذلك) . ولكن ابن الصلاح يرى أنه يجب العمل بها لمن صح إسناد الإعلام عنده، ووثق بالطريق إليه [16] .

والقائلون بجواز التحمل بالإعلام ينظرون إلى أن العبرة في ثبوت الكتاب أو الحديث لراويه، وبالإعلام يثبت الكتاب أو الحديث إلى راويه. وأما المانعون فنظروا إلى أنه لا يوجد إذن من الشيخ برواية كتابه.

هذه بعض طرق تحمل الحديث وأدائه، وهي بمجموعها تشهد لعلماء الحديث بالدقة والتحري، ولا أظن أمة من أمم الأرض اعتنت بمثل هـذا الموضوع. وهو باب من أبواب النقد والقبول والرد في الحديث. [ ص: 79 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية