الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الفكر المنهجي عند المحدثين

الدكتور / همام عبد الرحيم سعيد

مصدرية السنة للأحكام والاحتجاج بها

السنة مصدر من مصادر الأحكام الشرعية لقول الله تعالى: ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) [الحشر: 7]،

وعندما يرتب العلماء مصادر الشريعة قائلين: القرآن ثم السنة فإن هـذا الترتيب ترتيب في الذكر والشرف، ولا يؤخذ بمعنى أن السنة متأخرة في مصدريتها عن القرآن الكريم، ولقد عنون الخطيب البغدادي فصلا من كتابه "الكفاية" فقال: "باب ما جاء في التسوية بين حكم كتاب الله تعالى وحكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من حيث وجوب العلم ولزوم التكليف" [1]

ولا ريب أن السنة في معظمها تأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم من حيث ثبوتها، إذ القرآن الكريم كله متواتر ، وقليل من السنة ما نقل بالتواتر، وأما من حيث إفادتها للأحكام الشرعية، فالقرآن يحلل والسنة تحلل، والقرآن يحرم والسنة تحرم، والقرآن الكريم يندب والسنة تندب، [ ص: 30 ] والقرآن الكريم يبيح والسنة تبيح، فالسنة مثل القرآن الكريم في التشريع وإفادة الأحكام، وقد روى المقداد بن معد يكرب ( عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا إني أوتيت القرآن ومثله، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع، ولا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها ) [2]

ولما كان القرآن الكريم كتاب تعبد وتلاوة كانت آياته محدودة، وكلماته معدودة، وهو دستور مجمل، يعنى بالكليات أكثر مما يعنى بالفرعيات والجزئيات، وما ورد فيه من تفاصيل الأحكام قليل كما في آيات المواريث، ولذا فقد أحال القرآن الكريم على السنة لتبين الأحكام، على وجه الابتداء، أو التفريع ، أو النسخ ، والقرآن الكريم من غير سنة لا يمكن فهمه ولا يمكن تطبيقه، والذين يقبلون القرآن وحده، ويشككون في السنة إنما يحاربون القرآن بأسلوب ذكي، قد يغيب عن كثير من المسلمين، وهم يعملون على تعطيل القرآن عن العمل، فالقرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن، هـكذا قال مكحول [3] [ ص: 31 ]

روى الخطيب بسنده إلى الحسن أن عمران بن حصين - رضي الله عنهما - كان جالسا ومعه أصحابه فقال رجل من القوم: لا تحدثونا إلا بالقرآن، قال: فقال له: ادن، فدنا، فقال: أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد فيه صلاة الظهر أربعا، وصلاة العصر أربعا، والمغرب ثلاثا، تقرأ في اثنتين؟ أرأيت لو وكلت أنت وأصحابك إلى القرآن أكنت تجد الطواف بالبيت سبعا، والطواف بالصفا والمروة؟ ثم قال: أي قوم: خذوا عنا فإنكم والله إلا تفعلوا لتضلن [4]

ولقد بين الإمام محمد بن نصر المروزي مكانة السنة وأقسامها، فقال: " فالسنة تتصرف على أوجه: سنة اجتمع العلماء على أنها واجبة، وسنة اجتمعوا على أنها نافلة، وسنة اختلفوا فيها: أواجبة هـي أم نافلة؟ ثم السنة التي اجتمعوا أنها واجبة تتصرف على وجهين: أحدهما عمل والآخر إيمان، فالذي هـو عمل يتصرف على أوجه:

سنة اجتمعوا على أنها تفسير لما افترض الله مجملا في كتابه، فلم يفسره، وجعل الله تفسيره وبيانه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل : ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) [النحل: 44].

والوجه الثاني: سنة اختلفوا فيها، فقال بعضهم: هـي ناسخة لبعض أحكام القرآن، وقال بعضهم، لا، بل هـي مبينة في خاص القرآن وعامه، [ ص: 32 ] وليست ناسخة له، لأن السنة لا تنسخ القرآن، ولكنها تبين عن خاصه وعامه، وتفسر مجمله ومبهمه.

والوجه الثالث: سنة اجتمعوا على أنها زيادة على ما حكم الله به في كتابه، وسنة هـي زيادة من النبي صلى الله عليه وسلم ليس لها أصل في الكتاب إلا جملة الأمر بطاعة النبي صلى الله عليه وسلم والتسليم لحكمه وقضائه، والانتهاء عما عنه نهى " [5]

وهكذا فإنه يتبين لنا أن القرآن الكريم لا تعرف أحكامه إلا من خلال السنة، وأن الإسلام لا يتكامل بناؤه ونظامه إلا من خلال السنة، ورحم الله عبد الرحمن بن مهدي إذ يقول:

" الرجل إلى الحديث أحوج منه إلى الأكل والشرب " [6] ولسنا مخيرين بأخذ السنة أو تركها، فلا إسلام بلا سنة، وكما قال الإمام الشافعي رضي الله عنه : (القرآن وعاء والسنة غطاء) ، ومعنى كلامه أن السنة هـي الكاشفة عن معاني القرآن وأحكامه. [ ص: 33 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية