الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الفكر المنهجي عند المحدثين

الدكتور / همام عبد الرحيم سعيد

الصحابة لم يعرفوا الكذب

لقد زكى الله عصر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقوله: ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) [آل عمران: 110]

وبقوله: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ) [البقرة: 143] وزكى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ( بقوله: خير أمتي قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) [1] وكان من جوانب التزكية الصدق الذي تميز به الصحابة الكرام، فلم يعرفوا الكذب القائم على الافتراء والتزوير، وما يرد من ألفاظ التكذيب على ألسنة بعضهم فإنه تخطئة بعضهم لبعض، وبيان ما وقع فيه بعضهم من وهم الكلام. والكذب بهذا المعنى لا يعصم منه أحد، لا من الصحابة، ولا ممن دونهم. جاء في لسان العرب: (وفي حديث عروة " أن ابن عباس يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة بضع عشرة سنة، فقال: كذب، أي أخطأ، سماه كذبا، لأنه يشبه؛ لأنه ضد الصواب. كما أن الكذب ضد الصدق، وإن افترقا من حيث النية والقصد " [2] . وقد جاءت هـذه الكلمة في أحاديث كثيرة بمعنى الخطأ، من ذلك: ( قول النبي صلى الله عليه وسلم : كذب من قال ذلك ) [3] في الرد على من ظن أن عامر بن الأكوع قتل نفسه في غزوة خيبر حيث أصابه سيفه، وهو يبارز [ ص: 51 ] مرحبا ملك اليهود . ( وقوله صلى الله عليه وسلم : كذب أبو السنابل، ليس كما قال، قد حللت فانكحي ) . وذلك في الرد على ( أبي السنابل الذي قال لسبيعة بنت الحارث -وقد وضعت حملها بعد وفاة زوجها بأيام- إنك لا تحلي حتى تمكثي أربعة أشهر وعشرا، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: كذب أبو السنابل، ليس كما قال ) [4]

وعلى نحو هـذا الاستعمال لكلمة "كذب" جاء استعمال الصحابة لها، " كقول ابن عباس - رضي الله عنهما - عن نوف البكالي : كذب نوف " -عندما قال: صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل، وإنما موسى آخر- ونوف من الصالحين العباد، ومقصود ابن عباس: أخطأ نوف [5]

ولم يعرف عن أحد من الصحابة أنه كذب. وما قيل عن ظهور الكذب في عهد الصحابة، وأن عبد الرحمن بن عديس وضع حديثا على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ألا إن عثمان أضل من عبيدة على بعلها ) ، فقد ذكر السيوطي هـذا في الموضوعات. وسنده إلى ابن عديس لا يصح، فقد جاء في السند: ( حدثت أن كامل بن طلحة قال: قال حدثنا ابن لهيعة ، حدثنا يزيد بن عمرو المعافري ، أنه سمع أبا ثور الفهمي قال: قدمت على عثمان فصعد ابن عديس المنبر، وقال: إلا أن عبد الله بن مسعود حدثني أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ألا إن عثمان أضل من عبيدة على بعلها، فأخبرت عثمان فقال: كذب والله ابن عديس ما سمعها من ابن مسعود، ولا سمعها ابن مسعود من رسول الله صلى الله عليه وسلم قط ) [6] . [ ص: 52 ] ويلاحظ الانقطاع في السند. فالراوي عن كامل بن طلحة يقول: (حدثت) ومثل هـذا الانقطاع يجعل السند واهيا، ثم إن أبا ثور الفهمي من الرواة المعروفين عن عبد الرحمن بن عديس ، ولو كان روى هـذه الحادثة بما فيها من تكذيب لما روى عنه شيئا بعد ذلك. وقد ترجم ابن أبي حاتم لعبد الرحمن بن عديس، وقال: روى عنه أبو ثور الفهمي ، وقال أيضا: له صحبة، ولم يذكر فيه جرحا [7] . كما أن كتب المجروحين لم تذكر عبد الرحمن بن عديس. وذكره ابن عبد البر في "الاستيعاب"، وابن حجر في "الإصابة". وجاء في ترجمته: كان ممن بايع تحت الشجرة، ومثل هـذا الصحابي لا يجرح بمثل هـذا الخبر الملفق. وعندها يبقى الصحابة - رضي الله عنهم - في رتبة العدول.

التالي السابق


الخدمات العلمية