الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الفكر المنهجي عند المحدثين

الدكتور / همام عبد الرحيم سعيد

الاهتمام بالإسناد في زمن الصحابة والتابعين

والنص الأنف الذكر عن محمد بن سيرين يدل على مدى اهتمام الصحابة والتابعين بالإسناد في ذلك الزمن المبكر، إذا الفتنة قد حدثت في حدود سنة خمس وثلاثين. وفي تلك الفترة كان كثير من كبار الصحابة أحياء، وقد تأخرت وفيات كثير من الصحابة الذين شاهدوا الفتن. وقد حاول "شاخت" أن يحمل الفتنة المذكورة في كلام محمد بن سيرين على فتنة مقتل الوليد بن يزيد (سنة 126هـ) علما بأن وفاة ابن سيرين كانت سنة (110هـ) ، لو أنصف " شاخت " وفكر بنزاهة وموضوعية لما قال إن ابن سيرين يتحدث عن فتنة وقعت بعد وفاته بست عشرة سنة. وهدفه من قوله هـذا تأخير الفترة التي تنبه فيها المسلمون إلى ضرورة الإسناد لحفظ الحديث. أما ( روبنسون ) فقد قدم هـذه الفتنة لتكون في خلافة عبد الله بن الزبير واقتتاله مع الأمويين، وكان ذلك (سنة 75هـ) . وهي محاولة أخرى من "روبنسون" لإبعاد النص عن تأثيره البالغ في إظهار قيمة الإسناد وزمان ظهوره. ومذهب "روبنسون" بعيد أيضا، لأن عبارة ابن سيرين تقول: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد) ولم يقل: (كنا لا نسأل عن الإسناد) ، وهذه العبارة التي استخدمها تفيد أنه يتكلم عن شيوخه من الصحابة، ثم إن الفتنة إذا أطلقت فهي الفتنة الكبرى التي عصفت بالخلافة الراشدة، وإذا قيل الفتنة بالتعريف (بأل) التي هـي للعهد، فهي الفتنة المعهودة التي لا يجهلها أحد. [ ص: 59 ]

والحق -الذي لا مراء فيه- أن اشتراط السند ، والبحث عن الإسناد بدأ مع زمان الصحابة، ودليله سؤال عمر رضي الله عنه أبا موسى الأشعري وغيره أن يأتوا بشاهد على صحة ما رووا من الأحاديث. وهذا طلب أشد من طلب عموم السند، إذ هـو طلب لإثبات نسبة الكلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكلام ابن سيرين دليل لهذا التقدم في طلب الإسناد.

أما قوله: لم يكونوا يسألون عن الإسناد ، فإن معناه يساوي كلام ابن عباس لبشير العدوي الذي استنكر على ابن عباس عدم إصغائه لحديثه، " فقال ابن عباس: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا، وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا بما نعرف " [1] . وهذا مطابق لكلام ابن سيرين، ومعنى: لما ركب الناس الصعب والذلول؛ أي أصابتهم الفتن، فأصبحوا يتوسلون بكل وسيلة لتحقيق مآربهم.

وإلى جانب الاهتمام بالأسانيد فقد حدث بعض التابعين بأحاديث أرسلوها [2] عن النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يذكروا الصحابة الذين رووها. كما فعل التابعي الجليل سعيد بن المسيب والحسن البصري وأمثالهما. وقد حدد العلماء موقفهم من هـذه الأسانيد فقبلوا جزءا منها بشروط مشددة تجعلنا نطمئن إلى سلامة ما قبلوه منها. ومن المعلوم أن جيل الصحابة لم ينته بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم بل استمر هـذا الجيل حتى عمر بعض الصحابة [ ص: 60 ] إلى نهاية القرن الهجري الأول. وتجاوز كثير من الصحابة منتصف القرن الأول الهجري. وهذا يعني أن الرواية كانت مباشرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هـذا إلى جانب الدور الذي قام به الصحابة في حفظ الحديث من الاختلاط بأهواء الفتن وأغراضها، وكأن الحديث عند الصحابة كالماء القراح الذي ينساب في أنابيب محفوظة، تحفظ الماء من التلوث والفساد الذي يحيط بهذا الأنبوب من خارجه.

وهذا لا يمنع أن تكون الحاجة إلى الإسناد تزداد مع توالي الأيام، وما رواه التابعي من غير إسناد اعتمادا على مكانة التابعي وصلته الوثيقة بالصحابي قد يسأل عنه مرة أخرى فيذكره بالإسناد المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أو إلى الصحابي، وهذا الذي يفسر كثرة الأحاديث المذكورة في المصنفات الأولى من غير إسناد متصل. ولكن العلماء عملوا على تمييز المتصل من الأسانيد من غير المتصل. علما بأن ما روي من غير اتصال عن أحد التابعين قد يوجد متصلا عند غيره، وما لا يوجد متصلا وليس له شواهد فهو في دائرة الضعيف من الحديث. [ ص: 61 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية