الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
معلومات الكتاب

الفكر المنهجي عند المحدثين

الدكتور / همام عبد الرحيم سعيد

[7] التعريف بابن ماجه وبمنهجه في كتاب السنن

ابن ماجه (209-273هـ)

أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني ، سمع من علي بن محمد الطنافسي الحافظ، وأبي بكر بن أبي شيبة ، ومحمد بن عبد الله بن نمير وغيرهم كثير، وكان حافظا ناقدا واسع العلم، ارتحل إلى العراقين ومكة والشام ومصر ، ومات بقزوين في رمضان سنة ثلاث وسبعين ومائتين، صنف السنن والتاريخ والتفسير [1]

كتابه

يعرف كتاب ابن ماجه بـ (السنن) وقد جاءت هـذه التسمية على لسان ابن ماجه فيما ذكره الذهبي فقال: (وعن ابن ماجة قال عرضت هـذه السنن على أبي زرعة الرازي فنظر فيها وقال أظن إن وقع هـذا في أيدي الناس تعطلت هـذه الجوامع أو أكثرها ثم قال لعل لا يكون فيه تمام ثلاثين حديثا مما في اسناده ضعف أو نحو ذا) [2] . والجدير بالذكر أن كتاب ابن ماجه أقرب إلى الكتاب الجامع أكثر مما ينطبق عليه اسم السنن، فقد احتوى على سبعة وثلاثين كتابا من كتب الحديث، جمعت بين الأحكام والأدب والفتن والزهد والمقدمة المستوفية لقضايا العلم. [ ص: 165 ]

مكانة سنن ابن ماجه بين الكتب الستة

ألحق كتاب ابن ماجه بالكتب الخمسة، فأصبحت تعرف بالكتب الستة، وكان ذلك على يد محمد بن طاهر المقدسي (ت507هـ) ، صاحب كتاب شروط الأئمة الستة [3] . وسار على منواله الحافظ عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي المتوفى في سنة 600هـ، فضمن كتابه (الكمال في أسماء الرجال) ، رجال ابن ماجه كأحد الستة، ثم درج على هـذا أصحاب كتب الأطراف وكتب الرجال، ومرجع تقديم كتاب ابن ماجه على كتاب الموطأ للإمام مالك ، إلى أن زوائد ابن ماجه على الكتب الخمسة كثيرة، بينما نجد أحاديث الموطأ موجودة في الكتب الخمسة [4] وقد قدم الموطأ على سنن ابن ماجه كل من أبي الحسن أحمد بن رزين السرقسطي (ت 535هـ) في كتابه (التجريد في الجمع بين الصحاح) ، وأبي السعادات مبارك بن محمد المعروف بابن الأثير الجزري المتوفى (ت606هـ) ، ومن المعروف أن علماء المغرب يقدمون كتاب الموطأ على بعض الصحاح.

منهج الإمام ابن ماجه في السنن

صنف ابن ماجه كتابه على الأبواب؛ فبدأ بالمقدمة التي حاكى فيها الإمام الدارمي في مقدمة "سننه"، وقد فصل في هـذه المقدمة موضوعات كتاب العلم، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، والإيمان والفضائل. ولم يذكر في مقدمته شيئا عن منهج كتابه كما فعل الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، [ ص: 166 ] والإمام الترمذي في آخر جامعه، وعلى كل فهي مقدمة عامة تتناول قضايا تمهيدية للكتاب.

وقد نظم الإمام ابن ماجه كتابه على الكتب والأبواب [5] ، وكان ترتيبه موفقا بارعا، على درجة بالغة من الشمول والاستيعاب. وقد بلغت أبوابه -كما قال تلميذه ابن القطان في السنن-: ألفا وخمسمائة باب [6] . قال ابن حجر في كتاب ابن ماجه: جامع جيد كثير الأبواب والغرائب .

ترجم الإمام ابن ماجه لأبواب كتابه بعناوين تجمع بين الدقة والإيجاز والفقه. وإذا كرر الحديث فإنما يكرره في الباب نفسه لبيان اختلاف في السند أو المتن، ولتتقوى الأحاديث في الموضوع الواحد.

مثال: باب المحافظة على الوضوء [7] :

(274) : حدثنا علي بن محمد . حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن منصور ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثوبان ؛ قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استقيموا ولن تحصوا. واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة. ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) . [ ص: 167 ]

(275) : حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال: حدثنا المعتمر بن سليمان ، عن ليث ، عن مجاهد ، عن عبد الله بن عمر ؛ قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : استقيموا ولن تحصوا. واعلموا أن من أفضل أعمالكم الصلاة. ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) .

(276) : حدثنا محمد بن يحيى . حدثنا ابن مريم . حدثنا يحيى بن أيوب . حدثني إسحاق بن أسيد ، عن أبي حفص الدمشقي ، عن أبي أمامة ، يرفع الحديث؛ ( قال: استقيموا. ونعما أن استقمتم. وخير أعمالكم الصلاة. ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن ) .

يلاحظ على هـذا الباب ما يلي:

1-  يروي ابن ماجه عن شيوخه بصيغة (حدثنا) .

2- كل رواية من الروايات الثلاث انتهت إلى صحابي، الأول انتهت إلى ثوبان والثانية إلى ابن عمر، والثالثة إلى أبي أمامة - رضي الله عن الجميع.

3- كل سند من هـذه الأسانيد لا يخلو من مقال؛ ففي السند الأول انقطاع بين منصور وسالم بن أبي الجعد ، وفي السند الثاني ليث بن أبي سليم فيه ضعف وله أحاديث صالحة [8] ، وفي السند الثالث إسحاق بن أسيد ضعيف [9] ، وأبو حفص الدمشقي مجهول [10] . [ ص: 168 ]

وهؤلاء الضعفاء والمجاهيل ليس فيهم من أجمع العلماء على رد حديثه أو تركه. وبالجملة فإن هـذه الأسانيد تقع في مراتب الضعف الدنيا التي لا يفصل بينها وبين المردود المتروك شيء. مما يجعل منهج ابن ماجه منهجا منصبا على الدرجات الدنيا من الأسانيد التي يغلب عليها أنها تكتب ولا يحتج بها، وتصلح للاعتبار وللعتضيد.

إن نظرة سريعة على كتاب ابن ماجه تعطي الانطباع بكثرة الأحاديث الضعيفة فيه. وهذا المأخذ الذي سجله الإمام الذهبي وغيره على كتاب السنن فقال: (وإنما غض من رتبة سننه ما في الكتاب من المناكير وقليل من الموضوعات) . ثم قال: (وأما الأحاديث التي لا تقوم بها حجة فكثيرة لعلها نحو الألف) [11] . قال ابن حجر : (وفيه أحاديث ضعيفة جدا حتى بلغني أن السري كان يقول: (مهما انفرد بخبر منه فهو ضعيف غالبا، وليس الأمر في ذلك على إطلاقه باستقرائي. وفي الجملة ففيه أحاديث كثيرة منكرة، والله تعالى المستعان) .

ثم وجدت بخط الحافظ شمس الدين محمد بن علي الحسيني ما لفظه: (سمعت شيخنا أبا الحجاج المزي يقول: كل ما انفرد به ابن ماجه فهو ضعيف) - يعني بذلك ما انفرد به عن الأئمة الخمسة - ثم قال: (ولكن حمله على الرجال أولى، وأما حمله على الأحاديث فلا يصح كما قدمت ذكره من وجود الأحاديث الصحيحة والحسان مما انفرد به عن الخمسة) [12] ومعنى كلام ابن حجر هـذا: أن الضعيف قد يكون في رجل من رجال الإسناد أو أكثر، ولكن الحديث صحيح أو حسن لوجود روايات أخرى تقويه وتعضده. [ ص: 169 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية