الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : [ الشرط الثاني وهو النسب ]

                                                                                                                                            فأما الشرط الثاني : وهو " النسب " فمعتبر بقوله صلى الله عليه وسلم تنكح المرأة لأربع : لمالها ، وحسبها يعني بالحسب النسب .

                                                                                                                                            وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : إياكم وخضراء الدمن ، قيل : وما خضراء الدمن ، قال : ذلك مثل المرأة الحسناء من أصل خبيث ، وإذا كان كذلك فالناس يترتبون في أصل الأنساب ثلاث مراتب : قريشا ، ثم سائر العرب ، ثم العجم .

                                                                                                                                            فأما قريش فهي أشرف الأمم لما خصهم الله تعالى به من رسالته وفضلهم به من نبوته : ولقوله صلى الله عليه وسلم : قدموا قريشا ولا تقدموها ، وتعلموا من قريش ولا تعلموها فلا يكافئ قريشيا أحد من العرب والعجم .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا هل تكون قريش كلهم أكفاء في النكاح على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما - وهو مذهب البصريين من أصحابنا ، وبه قال أبو حنيفة - : أن جميع قريش أكفاء في النكاح : لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : الأئمة من قريش فلما كان جميع قريش في الإمامة أكفاء ، فأولى أن يكونوا في النكاح أكفاء .

                                                                                                                                            والوجه الثاني - وهو مذهب البغداديين من أصحابنا - : أن قريشا يتفاضلون بقربهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يتكافئون : لرواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : نزل علي جبريل ، فقال [ ص: 103 ] لي : قلبت مشارق الأرض ومغاربها ، فلم أر أفضل من محمد ، وقلبت مشارق الأرض ومغاربها ، فلم أر أفضل من بني هاشم ولأن قريشا لما شرفت برسول الله صلى الله عليه وسلم على سائر العرب كان أقربهم برسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف من سائر قريش ، ولأنهم لما ترتبوا في الديوان بالقرب حتى صاروا فيه على عشر مراتب دل على تمييزهم بذلك في الكفاءة ، وإذا كان كذلك فجميع بني هاشم ، وبني المطلب أكفاء : لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهم في سهم ذوي القربى ، وجمع عمر - رضي الله تعالى عنه - بينهم في الديوان ، ثم يليهم سائر بني عبد مناف ، وبني زهرة ، ولا يفضل بني عبد شمس في كفاءة النكاح على بني نوفل ، ولا بني عبد العزى على بني عبد الدار ، ولا بني عبد مناف على بني زهرة ، وإن فعلنا ذلك في وضع الديوان لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه يشق اعتباره في كفاءة النكاح ولا يشق اعتباره في وضع الديوان .

                                                                                                                                            والثاني : أن الكفاءة معتبرة في البطون الجامعة لا في الأفخاذ المتفرقة : لأننا إن لم نعد إلى بني أب أبعد ، صارت المناكح مقصورة على بني الأب الأقرب ، فضاقت ، ثم جمعنا بين بني عبد مناف وبني زهرة في كفاءة النكاح ، وإن لم يكونا بطنا واحدة : لرواية الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " صريح قريش ابنا كالأب " يعني بني قصي وبني زهرة ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم يرجع إلى قصي بأبيه ، وإلى زهرة بأمه ، فتقاربا في الكفاءة بأبويه صلى الله عليه وسلم ، ثم يلي عبد مناف وبني زهرة سائر قريش ، فيكونوا جميعا أكفاء . فلو كان فيهم بنو أب له سابقة في الإسلام ، فهل يكافئهم الباقون من قومهم ، كبني أبي بكر ؟ هل يكافئهم قومهم من بني تميم ، وكبني عمر ؟ هل يكافئهم قومهم من بني عدي ؟ يحتمل وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكونوا أكفاءهم بجدتهم قد كانوا قبل الكثرة والقدرة على إنكاح بني أبيهم أكفاء لعشائرهم ، فكذلك بعد الكثرة والقدرة .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يكونوا أكفاءهم لما قد تميزوا به من فضل الشرف والسابقة ولا يمتنع أن يكونوا قبل الكثرة أكفاء غير متميزين ، وبعد الكثرة متميزين كما تميزت بنو هاشم بعد الكثرة ، وإن لم يتميزوا قبل الكثرة .

                                                                                                                                            ثم اختلف أصحابنا في موالي قريش هل يكونوا أكفاء في النكاح ؟ على وجهين من اختلاف الوجهين من موالي ذوي القربى هل يشاركونهم في سهمهم من الخمس ؟ فهذا الكلام في قريش .

                                                                                                                                            فأما سائر العرب سوى قريش فهم على اختلاف أصحابنا في قريش ، فعلى قياس قول البصريين أن جميعهم أكفاء من عدنان وقحطان : لأن في عدنان سابقة المهاجرين ، وفي قحطان سابقة الأنصار ، وعلى قياس قول البغداديين : إنهم يتفاضلون ولا يتكافئون ، فتفضل مضر في الكفاءة على ربيعة ، ويفضل عدنان على قحطان : اعتبارا بالقرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد سمع - عليه السلام - رجلا ينشد :


                                                                                                                                            إني امرؤ حميري حين تنسبني لا من ربيعة آبائي ولا مضر

                                                                                                                                            فقال عليه الصلاة والسلام : ذاك أهون لقدرك وأبعد لك من الله
                                                                                                                                            . فلو تقدمت قبيلة من [ ص: 104 ] العرب على غيرها نظر ، فإن كان ذلك لمأثرة في الجاهلية أو لكثرة عدد كانوا وغيرهم من العرب أكفاء ، وإن كان لسابقة في الإسلام كان على الوجهين المحتملين ، وأما سائر العجم على قياس قول البصريين إن جميعهم أكفاء للفرس منهم ، والنبط ، والترك ، والقبط ، وعلى قياس قول البغداديين إنهم يتفاضلون في الكفاءة ، فالفرس أفضل من النبط لقول النبي صلى الله عليه وسلم : لو كان الدين معلقا بالثريا لتناوله قوم من أبناء فارس .

                                                                                                                                            وبنو إسرائيل أفضل من القبط الذين سلفهم لكثرة الأنبياء فيهم ، فعلى هذا لو كان لقوم من الفرس شرف على غيرهم ، نظر : فإن كان لملك قبل الإسلام أو مأثرة تقدمت لم يتقدموا به في الكفاءة على غيرهم ، وإن كان لسابقة في الإسلام احتمل ما ذكرناه من الوجهين المحتملين .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية