الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        فصل .

        طلب ما لم يحصل .

        304 - فأعود الآن إلى تفصيل الأقسام .

        فأما الجهاد فيتعلق به أمر كلي ، وقد يغفل المتجرد للفقه عنه ، فأقول : [ ص: 207 ] ابتعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى الثقلين ، وحتم على المستقلين بأعباء شريعته دعوتين : إحداهما : الدعوة المقرونة بالأدلة والبراهين ، والمقصد منها إزالة الشبهات ، وإيضاح البينات ، والدعاء إلى الحق بأوضح الدلالات .

        والأخرى : الدعوة القهرية المؤيدة بالسيف المسلول على المارقين الذين أبوا واستكبروا بعد وضوح الحق المبين .

        فأما البراهين ، فقد ظهرت ولاحت ومهدت ، والكفار بعد شيوعها في رتب المعاندين ، فيجب وضع السيف فيهم ، حتى لا يبقى عليها إلا مسلم أو مسالم .

        305 - وقد قال طوائف من الفقهاء : الجهاد من فروض الكفايات ، فإذا قام به من فيه كفاية سقط الفرض عن الباقين ، وإن تعطل الجهاد حرج الكافة ، على تفاصيل معروفة في مسالك الفقه .

        [ ص: 208 ] ثم قالوا : يجب أن ينتهض إلى كل صوب من أصواب بلاد الكفر في الأقطار ، عند الاقتدار عسكر جرار في السنة مرة واحدة ، وزعموا أن الفرض يسقط بذلك .

        306 - وهذا عندي ذهول عن التحصيل ; فيجب إدامة الدعوة القهرية فيهم على حسب الإمكان ، ولا يتخصص ذلك بأمد معلوم في الزمان ، فإن اتفق جهاد في جهة ، ثم صادف الإمام من أهل تلك الناحية غرة ، واستمكن من فرصة ، وتيسر إنهاض عسكر إليهم ، تعين على الإمام أن يفعل ذلك .

        ولو استشعر من رجال المسلمين ضعفا ، ورأى أن يهادن الكفار عشر سنين ، ساغ ذلك ، فالمتبع في ذلك الإمكان لا الزمان .

        ولكن كلام الفقهاء محمول على الأمر الوسط القصد في غالب العرف ، فإن جنود الإسلام إذا لم يلحقها وهن ، ولم يتجاوز عددهم وعددهم المعروف في مستمر العرف ، فإذا غزت فرقا [ ص: 209 ] أحزابا في أقطار الديار ، فكابدوا من الشقاء والعناء ووعثاء الأسفار ، ومصادمة أبطال الكفار ما كابدوا ، وعضهم السلاح ، وفشى فيهم الجراح ، وهزلت دوابهم ، وتبترت أسبابهم ، فالغالب أنهم لا يقوون على افتتاح غزوة أخرى ، ما لم يتودعوا سنة ، فجرى ما ذكروه على حكم الغالب .

        فأما إذا كثر عدد جند الإسلام ، واستمكن الإمام من تجهيز جيش بعد انصراف جيش ، فليفعل ذلك جادا مجتهدا ، عالما بأنه مأمور بمكاوحة الكفار ما بقي منهم في أقاصي الديار ديار ، ثم لا يؤثر لذوي البأس والنجدة من المسلمين الاستئثار ، والانفراد والاستبداد بالأنفس في الجهاد ، بل ينبغي أن يصدروا عن رأي صاحب الأمر ، حتى يكون كالئهم ، وردأهم ، ومراعيهم من ورائهم ، فلا يضيعون في غالب الظنون .

        [ ص: 210 ] 307 - ومما يجب الإحاطة به أن معظم فروض الكفاية مما لا تتخصص بإقامتها الأئمة ، بل يجب على كافة أهل الإمكان أن لا يغفلوه ، ولا يغفلوا عنه ، كتجهيز الموتى ، ودفنهم ، والصلاة عليهم .

        وأما الجهاد فموكول إلى الإمام ، ثم يتعين عليه إدامة النظر فيه على ما قدمنا ذكره ، فيصير أمر الجهاد في حقه بمثابة فرائض الأعيان ، والسبب فيه أنه تطوق أمور المسلمين ، وصار مع اتحاد شخصه كأنه المسلمون بأجمعهم ، فمن حيث انتاط جر الجنود وعقد الألوية والبنود بالإمام ، وهو نائب عن كافة أهل الإسلام ، صار قيامه بها على أقصى الإمكان به كصلاته المفروضة التي يقيمها .

        308 - وأما سائر فروض الكفايات ، فإنها متوزعة على العباد في البلاد ، ولا اختصاص لها بالإمام . نعم . إن ارتفع إلى مجلس [ ص: 211 ] الإمام أن قوما في قطر من أقطار الإسلام يعطلون فرضا من فروض الكفايات زجرهم وحملهم على القيام به .

        فهذا منتهى ما أردناه في الجهاد .

        309 - ثم القول في كيفية القتال والغنائم والأسرى من النساء والذراري والمقاتلة يستقصى في كتاب السير من كتب الفقه .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية