الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        234 - فهذا انتهاء مرامنا فيمن يستنيبه الإمام بعد وفاته أو في استمرار حياته في جميع الأمور .

        فأما الذين يستنيبهم في بعض الأمصار والأقطار ، أو في بعض الأعمال ، فأنا الآن بعد تقديم اللياذ برب البرية والتبري من الحول والقوة ، أذكر في مستنابيه قولا كافيا شافيا ، ومجموعا وجيزا وافيا ، إن شاء الله عز وجل ، فأقول :

        [ ص: 159 ] 235 - أولا : الاستنابة لا بد منها ، ولا غنى عنها ، فإن الإمام لا يتمكن من تولي جميع الأمور وتعاطيها ، ولا يفيء نظره بمهمات الخطة ولا يحويها ، وهذه القضية بينة في ضرورات العقول لا يستريب اللبيب فيها ، ولكن لا يجوز له أن يطوق الكفاة الأعمال ، ثم يقطع البحث عنهم ، ويضرب عن سبر أحوالهم ; فإنه لو فعل ذلك ، لكان معطلا فائدة الإمامة ، مبطلا سر الزعامة والرياسة العامة ، بل عليه أن يمهد مسالك انتهاء الأخبار والأنباء إليه في مجامع الخطوب . وينصب مرتبين للإنهاء وتبليغ الأخبار والأنباء ، حتى تكون الخطة بكلاءته مربوطة ، وبرعايته محوطة ، ومجامع الأمور برأيه منوطة ، واطلاعاته على البلاد والعباد مبسوطة ، فهو يرعاهم كأنه يراهم ، وإن شط المزار وتقاصت الديار ، وليس من الممكن أن يتكلف الإحاطة بتفاصيل الأمور وآحاد أفرادها ، ولكنه لا يغفل عن مجامعها [ ص: 160 ] وأصولها ، واستبراء أحوال أصحاب الأعمال ، وأقوى ذرائعه في الوقوف على أحوال العمال دعاؤه المتظلمين إلى خبائه ، واستحثاثه أصحاب الحاجات على شهود بابه .

        236 - فإذا ثبتت هذه المقالة ، فإن سئلنا بعدها عن تفاصيل المستنابين وأعدادهم . قلنا : استقصاء القول في ذلك يتوقف على بيان ما يناط بالإمام من أشغال المسلمين في الدنيا والدين ; وسنعقد في ذلك بابا جامعا ، إن شاء الله عز وجل ، ومضمونه عمرة الكتاب والمقصد واللباب . ثم إذا تبين ما يرتبط بنظر الإمام ، فإنه يستنيب فيما إليه الكفاة المستقلين بالأمور ، ويجمع جميعهم اشتراط الديانة والثقة والكفاية فيما يتعلق بالشغل المفوض على ما سيأتي ذلك مفصلا ، إن شاء الله عز وجل . في الباب المشتمل على تفصيل ما يتولاه الأئمة .

        [ ص: 161 ] 237 - والذي نذكره الآن اشتراط رتبة الاجتهاد ، ونفي اشتراطها . فنقول : إن كان الأمر المفوض إلى المستناب أمرا خالصا يمكن ضبطه بالتنصيص عليه ، وتخصيصه بالذكر ، فلا يشترط أن يكون المستناب فيه إماما في الدين ، ولكنه يقتص أثر النص ، ويرتاد اتباع المثال ، وتكفيه فيما يرشح له الديانة والاستقلال بالأمر المفوض إليه ، والهداية إليه .

        238 - وإن لم يكن مما يضبطه النص ، ولكن كان لا يستدعي القيام به الاطلاع على قواعد الشريعة ، فلا يشترط رتبة الاجتهاد ، بل يكفي من البصيرة ما ينتهض ركنا وذريعة إلى تحصيل الغرض المقصود في الأمر المفوض إليه : فالذي ينتصب لجباية الصدقات ينبغي أن يكون بصيرا بالأموال الزكاتية ونصبها وأوقاصها ، وما أوجبه الله فيها . وأمراء الأجناد وأصحاب الألوية والمراتب ينبغي أن يكونوا محيطين بما تقتضيه مناصبهم .

        [ ص: 162 ] 239 - وإن كان الأمر المفوض مما لا تضبطه النصوص من المولي ، وكان عظيم الوقع في وضع الشرع ، لا يكفي فيه فن مخصوص من العلوم ، كالقضاء ، فالذي يؤثره الشافعي - رضي الله عنه - ومعظم الأئمة أنه يشترط أن يكون المتولي للقضاء مجتهدا ، ولم يشترط أبو حنيفة - رحمه الله - ذلك . وجوز أن يكون مقلدا ، يستفتي فيما يعن من المشكلات المفتي . ويحكم بموجبه .

        240 - وهذا عندنا مظنون لا يتطرق القطع إلى النفي والإثبات فيه . وسيأتي ذلك مشروحا موضحا إن شاء الله عز وجل .

        والذي ذكرناه الآن جمل تجري مجرى الأساس والتوطئة ، وتمهيد القواعد ، ونحن نختم هذا الباب بنكتة لا بد من الإحاطة بها فنقول :

        241 - قد دلت المرامز التي ذكرناها على صفات الولاة ، [ ص: 163 ] فأما إذا طرأت عليهم أحوال لو كانوا عليها ابتداء لما جاز نصبهم ، فوجه القول في طريانها عليهم كوجهه في طريان الصفات المنافية لعقد الإمامة على الإمام ، وقد مضى ذلك على أبلغ وجه في البيان ، ولكنا ذكرنا أن الفسق الذي يجري مجرى العثرة لا يوجب خلع الإمام ، ولا انخلاعه . فلو فرض مثل ذلك في حق بعض المستنابين فالإمام يخلعه ، ولا يجري أمر المستناب الذي هو في قبضة الإمام ، مجرى الإمام الذي لو تعرض لخلعه لمادت المملكة بأكنافها ، ولارتجت خطة الإسلام بأعطافها . وأيضا فإنه يخلع القاضي الإمام ، ويد الخليفة لا تطاولها يد ، ولو سوغ خلع الإمام ، لاستحال أن يتصدى لخلع الإمام من يشاء من الأتباع ، وقد مضى من ذلك ما في بعضه إقناع ، وستأتي صفات القضاة والولاة اقترانا بالتولية وطريانا ، وما يوجب الخلع والانخلاع .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية