الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 128 ] فصل .

        185 - الإمام إذا لم يخل عن صفات الأئمة ، فرام العاقدون له عقد الإمامة أن يخلعوه ، لم يجدوا إلى ذلك سبيلا باتفاق الأئمة . فإن عقد الإمامة لازم ، لا اختيار في حله من غير سبب يقتضيه ، ولا تنتظم الإمامة ، ولا تفيد الغرض المقصود منها إلا مع القطع بلزومها ، ولو تخير الرعايا في خلع إمام الخلق على حكم الإيثار والاختيار ، لما استتب للإمام طاعة ، ولما استمرت له قدرة واستطاعة ، ولما صح لمنصب الإمامة معنى .

        186 - فأما الإمام إذا أراد أن يخلع نفسه ، فقد اضطربت مذاهب العلماء في ذلك : فمنع بعضهم ذلك ، وقضى بأن الإمامة تلزم من جهة الإمام لزومها من جهة العاقدين ، وكافة المسلمين .

        [ ص: 129 ] 187 - وذهب ذاهبون إلى أن الإمام له أن يخلع نفسه ، واستمسك بما صح تواترا واستفاضة من خلع الحسن بن علي نفسه ، وكان ولي عهد أبيه ، ولم يبد من أحد نكير عليه .

        188 - والحق المتبع في ذلك عندي أن الإمام لو علم أنه لو خلع نفسه ، لاضطربت الأمور ، وزلزلت الثغور ، وانجر إلى المسلمين ضرار لا قبل لهم به ، فلا يجوز أن يخلع نفسه ، وهو فيما ذكرناه كالواقف من المسلمين في صف القتال مع المشركين . إذا أراد أن ينهزم ، وعلم أن الأمر بهذا السبب يكاد أن ينثلم وينخرم ، فيجب عليه المصابرة ، وإن لم يكن متعينا عليه الابتدار للجهاد مع قيام الكفاة به .

        189 - وإن علم أن خلعه نفسه لا يضر المسلمين بل يطفئ نائرة ثائرة ، ويدرأ فتنا متظافرة ، ويحقن دماء في أهبها ، ويريح طوائف المسلمين عن نصبها ، فلا يمتنع أن يخلع نفسه .

        [ ص: 130 ] وهكذا كان خلع الحسن نفسه ، وهو الذي أخبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ كان الحسن صبيا رضيعا كان يمر يده على رأسه ويقول : " إن ابني هذا سيد وسيصلح الله تعالى به بين فئتين عظيمتين " ، وما روي أن أبا بكر - رضي الله عنه - قال : " أقيلوني فإني لست بخيركم " دليل على أن الإمام ليس له أن يستقل بنفسه انفرادا واستبدادا في الخلع ، ولذلك سأل - رضي الله عنه - الإقالة ; فقالوا : والله لا نقيلك ولا نستقيلك .

        190 - وهذا محمول على ما كان الأمر عليه من ارتباط مصلحة الإسلام باستمرار الصديق على الإمامة ، وإدامة الإمامة والاستقامة عليها . وكان لا يسد أحد في ذلك الزمن مسده ، كما سيأتي ذكره في إمامة الصديق - رضي الله عنه .

        [ ص: 131 ] ولو كان لا يؤثر خلعه نفسه في إلحاق ضرار ، ولا في تسكين ثائرة ، ولو خلع الإمام نفسه ، لقام آخر مستصلح للإمامة مقامه ، فلست قاطعا في ذلك جوابا ، بل أرى القولين فيه متكافئين ، قريبي المأخذ .

        191 - والأظهر عندي أنه لو حاول استخلاء بنفسه ، واعتزالا لطاعة الله سبحانه ، لم يمتنع ، وذلك مظنون ، لا يتطرق إليه في النفي والإثبات قطع ، فليقع ذلك في قسم المظنونات .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية