الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        378 - فأعود وأقول : لست [ أحاذر ] إثبات حكم لم يدونه الفقهاء ، ولم يتعرض له العلماء ، فإن معظم مضمون هذا الكتاب لا يلفى مدونا في كتاب ، ولا مضمنا لباب .

        ومتى انتهى مساق الكلام إلى أحكام نظمها أقوام ، أحلتها على أربابها وعزيتها إلى كتابها .

        ولكني لا أبتدع ، ولا أخترع شيئا ، بل ألاحظ وضع الشرع ، وأستثير معنى يناسب ما أراه وأتحراه .

        وهكذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدة التي لا توجد فيها أجوبة العلماء معدة ، وأصحاب المصطفى - صلى الله عليه [ وسلم ] - ورضي عنهم ، لم يجدوا في الكتاب والسنة إلا نصوصا معدودة وأحكاما محصورة [ ص: 267 ] محدودة ، ثم حكموا في كل واقعة عنت ، ولم يجاوزوا وضع الشرع ، ولا تعدوا حدوده ; فعلمونا أن أحكام الله تعالى لا تتناهى في الوقائع ، وهي مع انتفاء النهاية عنها صادرة عن قواعد مضبوطة .

        379 - فليكن الكلام في الأموال وقد صفر بيت المال واقعة لا يعهد فيها للماضين مذهبا ، ولا يحصل لهم مطلبا ، ولنجر فيه على ما جرى عليه ( 142 ) الأولون إذ دفعوا إلى وقائع لم يكونوا يألفوها ، ولم ينقل لهم مذاهب ، ولم يعرفوها .

        وإذا استد الناظر ، استوى الأول والآخر .

        فنقول :

        380 - للناس حالتان : إحداهما - أن يعدموا قدوة وأسوة وإماما يجمع شتات الرأي ، ويردوا إلى الشرع المجرد من غير داع وحاد ، فإن كانوا كذلك ، فموجب الشرع والحالة هذه في فروض الكفايات أن يحرج المكلفون القادرون لو عطلوا فرضا واحدا ، ولو أقامه من فيه الكفاية ، سقط الفرض عن الباقين .

        فلا يثبت لبعض المكلفين [ ص: 268 ] توجيه الطلب على آخرين فإنهم ليسوا منقسمين إلى داع ومدعو ، وحاد ومحدو ، وليس [ الفرض ] متعينا على كل مكلف ، فلا يعقل تثبيت التكليف في فروض الكفايات مع عدم الوالي إلا كذلك .

        381 - فليضرب في ذلك الجهاد مثلا ، فنقول :

        لو شغر الزمان عن وال ، تعين على المسلمين القيام بمجاهدة الجاحدين ، وإذا قام به عصب فيهم كفاية سقط الفرض عن سائر المكلفين ; [ فهذا ] إذا عدموا واليا .

        382 - فأما إذا وليهم إمام مطاع ، فإنه يتولى جر الجنود وعقد الألوية والبنود ، وإبرام الذمم والعهود .

        ولو ندب طائفة إلى الجهاد ، تعين عليهم مبادرة الاستعداد ، من غير تخاذل وتواكل واتئاد ، ولم يكن لهم أن يقولوا : ليس ما ندبنا إليه متعينا علينا ; فليقم به غيرنا ، فإنا قد أثبتنا أن المسلمين إذا نصبوا واليا يدبرهم في إصدارهم وإيرادهم تدبير الآباء في أولادهم .

        [ ص: 269 ] ولو ساغ مقابلة أوامره ونواهيه بما يوهي شأنه ويوهيه ، لما استتب له مقصد فيما يذره ويأتيه ، ولأفضى إلى عسر يتعذر عليه تلافيه .

        ولو وكل [ كل ] مندوب ( 143 ) ارتسام مراسم الوالي المنصوب إلى غيره ، لما استقرت للإمام طاعة في ساعة .

        فإذا رأى الوالي المنصوب رأيا من هذا الفن كان متبعا ، ولم تجد الرعايا دون اتباعه محيدا ومتسعا .

        383 - فإذا تقرر ذلك ، بنينا عليه أمر المال قائلين : لو شغرت الأيام عن قيام إمام بأمور المسلمين والإسلام ، ومست الحاجة في إقامة الجهاد إلى مال وعتاد ، وأهب واستعداد ، كان وجوب بذله عند تحقيق الحاجات على منهاج فروض الكفايات ، فليست الأموال بأعز من المهج التي يجب تعريضها للأغرار المؤدية إلى الردى والتوى .

        384 - فهذا إذا لم يكن في الزمان وزر يلاذ به .

        فإذا ساس المسلمين وال ، وصفرت يده عن عدة ومال ، فله أن يعين بعض الموسرين لبذل ما تقتضيه ضرورة الحال ، لا محالة ، [ ص: 270 ] كما يندب من يراه أهلا للانتداب . فلا ينبغي أن يستبعد المرء حكم الإمام في فلسه مع [ نفوذ ] حكمه في روحه ونفسه .

        385 - ولست أقول ذلك عن حسبان ومخالجة ريب ، بل أقطع به على الغيب . وسيزداد ذلك وضوحا وانشكافا إذا ذكرت من تفاصيل هذه القاعدة أطرافا ، وكيف يبعد مدرك ذلك على الفطن الأريب ، وفي أخذ فضلات من أموال رجال تخفيف أعباء عنهم وأثقال ، وإقامة دولة الإسلام على أبهة الاستقلال في أحسن حال .

        ولو لم يتدارك الإمام ما استرم من سور الممالك ، لأشفى الخلائق على ورطات المهالك ، ولخيفت خصلة لو تمت - [ لا كانت ولا ألمت ] لكان أهون فائت فيها أموال الأغنياء ، وقد يتعداها إلى إراقة الدماء ، وهتك الستور ، وعظائم الأمور .

        386 - فإذا تمهد ما ذكرناه ( 144 ) فلنقل بعده : ليس للإمام [ في ] شيء من مجاري الأحكام أن يتهجم ويتحكم ، فعل من يتشهى ويتمنى ، ولكنه يبني أموره كلها ، دقها وجلها ، عقدها [ ص: 271 ] وحلها على وجه الرأي والصواب في كل باب ، فلا يندب قوما للجهاد إلا إذا رأى تعينهم منهج الرشاد ، ومسلك السداد ، ثم يحزب الناس حزبا ، ويجعل ندبهم إلى الجهاد نوبا ، وكذلك يجهز إلى كل جيل من الكفار من يليهم في صوب تلك الديار .

        وهذا يغني وضوحه في طرق الإيالة عن الإطناب والإطالة .

        387 - والأمر في أخذ الأموال يجري على هذه الأحوال فليشر [ على أغنياء كل ] صقع بأن يبذلوا من المال ما يقع به الاستقلال .

        وليس لتفاصيل الرأي غاية ونهاية ، فلير الإمام في ذلك كله رأيه .

        وما ذكرناه [ ليس ] حصرا وضبطا في المقال ، ولكنا جئنا به ضربا للأمثال ، وعلى رأي الإمام بعد عون الله الاتكال في مضطرب الأحوال .

        388 - ومن تتمة القول في هذا أن المسلمين إذا وجدوا معاذا [ ص: 272 ] واتخذوا لمهماتهم ملاذا ، لم يكن لهم مضادته ومرادته ، ومعاندته ومحادثته .

        فإن رأى إذا وقعت واقعة عامة ، وداهية مطبقة للخطة طامة ، ومست الضرورات في دفاعها إلى عدة ، ومادة من المال تامة .

        ويد الإمام صافرة ، وبيوت الأموال شاغرة - أن يتسبب إلى [ استيداء ] مال من موسري المؤمنين - [ فإنه ] يفعل ذلك على موجب الاستصواب ما أراد ، وعمم أهل [ الاقتدار ] واليسار في أقاصي البلاد ، ورتب على كل ناحية في تحصيل المراد ، ذا كفاية ، ودربة وسداد .

        فإن عسر التبليغ إلى الاستيعاب ، ورأى في وجه [ ص: 273 ] الصواب أن يخصص أقواما ، ثم يجعل الناس في ذلك فئاما ، فيستأدي عند كل ملمة ، من ( 145 ) فرقة أخرى ، وأمة اتبع في ذلك كله أوامره ، واجتنب زواجره ، ثم [ ليكن ] في ذلك على أكمل نظر ، وأسد فكر وعبر .

        389 - فإن اقتضى الرأي تعيين أقوام على التنصيص ، تعرض لهم على التخصيص ، ونظر إلى من كثر ماله وقل عياله ، وقد يتخير من خيف عليه من كثرة ماله أن يطغى ، ولو ترك لفسد ، ولو غض من غلوائه قليلا ، لأوشك أن يقتصد و [ يستد ] .

        وإذا لم يخل المتصدي للإمامة والاستقامة عن تحديد النظر ، وتسديد الفكر ، ففيما ذكرناه تصريحا أو رمزنا إليه تلويحا له معتبر .

        390 - ثم إذ قد لاحت المراشد ، ووضحت المقاصد ، فنذكر بعدها ثلاثة فصول ، بعد تمهيد ما سبق من الأصول .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية