الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        فصل .

        اختيار الإمام .

        63 - ونحن بعد تقديم ذلك نخوض في إثبات الاختيار فنقول :

        اتفق المنتمون إلى الإسلام على تفرق المذاهب ، وتباين المطالب ، على ثبوت الإمامة ، ثم أطبقوا على أن سبيل إثباتها النص أوالاختيار ، وقد تحقق بالطرق القاطعة والبراهين اللامعة بطلان مذاهب أصحاب النصوص ، فلا يبقى بعد هذا التقسيم والاعتبار إلا الحكم بصحة الاختيار ، وإن أردنا أن نعتمد إثبات الاختيار من غير التفات إلى إبطال مذاهب مدعي النصوص أسندناه إلى الإجماع قائلين :

        [ ص: 55 ] 64 - إن الخلفاء الراشدين انقضت أيامهم ، وتصرمت نوبهم ، وانسحبت على قمم المسلمين طاعتهم ، وكان مستند أمورهم صفقة البيعة .

        فأما أبو بكر - رضي الله عنه - فقد تواترت البيعة له يوم السقيفة ، وكان عمر - رضي الله عنه - ولي عهده ، وتعين عثمان - رضي الله عنه - من الستة المذكورة في الشورى بالبيعة ، ولما انتهت النوبة إلى علي - رضي الله عنه - طلب البيعة ، فأول من بايعه طلحة ، والزبير ، ومن حاول بسط مقال في إيضاح استناد الأئمة الماضين إلى البيعة كان متكلفا مشتغلا بما يغني الظهور والتواتر عنه ، وقد قدمنا أن الإجماع هو المعتصم الأقوى ، والمتعلق الأوفى ، في قواعد الشريعة ، وهو الوسيلة والذريعة ، إلى اعتقاد قاطع سمعي كما سبق في إثبات الإجماع تقريره .

        65 - فإن قيل هذا تدليس وتلبيس ; فإنكم قدمتم في خلل [ ص: 56 ] الكلام الذي سقتموه في الإجماع أن ما يتفق من اجتماع في الإيالات الملكية ، والسياسات القهرية ، وما يفرض فيها من إذعان جماعة وبذل طاعة لا يشعر بحق ولا باطل ، وميزتم الإجماع من هذه المسالك برده إلى اجتماع في حكم الواقعة ، وزعمتم أن ذلك يقتضي قضية جامعة ، ثم عدتم فاستدللتم في الإمامة بالإجماع ، وهي أعلى مراتب الدول ، وأرفع المناصب ، وهذا تناقض واضح ، وتهافت في الكلام لائح .

        قلنا : هذا كلام من يبغي الأسماء والألقاب ، ويؤثر الإضراب عن لباب الألباب . وكأن السائل يرانا ندير ذكر الولاية ، فاستمسك بهذه الصيغة من غير إحاطة ودراية ، وذهل عن المقصد والنهاية ، وهذا الفن يعود المتعلق به إلى ملتطم العماية ، وظلمات الغواية ، فنقول : محل تعلقنا بالإجماع أن الهم بالبيعة والإقدام عليها في الزمان المتطاول كان أمرا جازما يستند إليه مقاليد الولايات قبل استمرارها ، ويربط به عقد الولاية والرايات قبل استقرارها ، ثم تناقله الخلائق على تفنن الطرائق ، ولم يبد أحد من صحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نكيرا ، ويستحيل ذلك من غير قاطع أحاط به المجمعون .

        66 - نعم . إنما يجري باتباع ذوي الأمر على الحق أو [ ص: 57 ] الباطل - العرف . وإذا استقر الملك في النصاب ، وأذعنت الرقاب ، واستتبت الأسباب ، فإذ ذاك قد يحمل الرعية على قضية قهرية ; فيتواطئون طوعا وكرها ، ولا يرون للانسلال عن طاعته وجها . فلما توفي المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لم يخلفه ذو نجدة واقتهار ، وصاحب أيد ومنة واقتسار تولى بعدد وعدد ، وأشياع وأنصار ، وترك الناس على نفوس أبية ، وهمم عن القماءة والذلة علية ، وطرائق في اتباع الحق مرضية ، وهم على خيرتهم فيما يذرون ويأتون ، فاستمسكوا بالبيعة في الأمر الأعظم الأهم ، والخطب الأطم ، ولم يختلفوا فيها وإنما ترددوا في تعيين المختار ، ثم استقاموا لياذا ، وما كان لياذ الماضين بالبيعة في ماضي الدهر صادرا عن جامع قهري ، بل كانت متقدمة على الإمامة ، ثم بعدها الاتباع واتساق الطاعة ، فلم يبق إشكال في انعقاد الإجماع على الاختيار ، وبطلان المصير على ادعاء النص .

        67 - فإن قيل : قد حصرتم عقد الإمامة في الاختيار ، وأجريتم في أثناء الكلام تولية العهد الصادر من الإمام .

        [ ص: 58 ] قلنا : سيأتي ذكر ذلك موضحا منقحا مصححا في بابه ، ولكنا لما أردنا أن نتكلم في أصل الإمامة حصرناها بعد بطلان النص في الاختيار ، والتولية في العهود لا تكون إلا بعد ثبوت الإمامة . فهذا ما أردنا أن نبين . والله الموفق للصواب .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية