الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 492 ] 771 - وإن زعم السائل أن من أصول شريعتنا ألا تنسى ، وإن نسيت التفاصيل ، تغلظ الحظر ، فليس الأمر كذلك ، فإن المذاهب في ذلك متعارضة ، فالذي يقتضيه مذهب الإمام أبي حنيفة - رحمه الله - في تفصيل الأحكام إجراء الأعيان على الحظر إلا أن تقوم دلالة في الحل .

        772 - والذي يقتضيه مذهب الشافعي - رحمه الله - إجراء الأحكام على التحليل إلى أن يقوم دليل على الحظر والتحريم .

        773 - ومذهب مالك - رحمه الله - حصر المحرمات فيما اشتمل عليه قوله تعالى : ( ( قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه ) ) الآية .

        774 - فكيف يكون ما قدره السائل أصلا مع تعارض هذه المذاهب ؟ والأصل هو المتفق عليه المقطوع به ؟ .

        775 - فإذا درست المذاهب ، فليس ادعاء الحظر أولى من ادعاء [ ص: 493 ] الإباحة ، وإذا تعارضت الظنون ، انتفى الحكم كما سبق تقريره ، وقد قدمنا في العبادات أن ما انتفى دليل وجوبه ، لم نوجبه ، والتحريم إذا انتفى دليله كالوجوب إذا عدم دليله .

        776 - والآن بعد نجاز هذا أقول : فاضل هذا الزمان من يفهم مداخل هذه الفصول ومخارجها ، ويستبين مسالكها ومناهجها ، والمرموق والذي تثني عليه الخناصر في الدهر من يحيط بشرف هذا الكلام ، ويميزه عن كلام بني الزمان .

        ولا حاجة إلى تكلف التصلف في مصاولة العلماء ، ومطاولتهم ، فإن هذا مما كفانيه الله تعالى ، ولكني قد أرى في أثناء ما أجريه التنبيه على علو قدر ما يجري ، حتى يثبت عنده مطالعه المطلع عليه ، ولا يستمر عليه فتنفلت ( 260 ) عنه مزايا الفوائد . والله ولي التأييد والتسديد بمنه ولطفه .

        فهذا بيان ما أردناه في تحليل الأجناس وتحريمها .

        777 - فأما تفصيل القول في الأملاك : فالأملاك محترمة [ ص: 494 ] كحرمة ملاكها ، والقول فيها في مقصود هذا الكتاب يتعلق بفصلين .

        أحدهما - في المعاملات التي يتعاطاها الملاك .

        والثاني - في الحقوق التي تتعلق بالأملاك .

        778 - فأما القول في المعاملات : فالأصل المقطوع به فيها اتباع تراضي الملاك ، والشاهد من نص القرآن في ذلك قوله تعالى ( ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ) ) .

        فالقاعدة المعتبرة أن الملاك مختصون بأملاكهم ، لا يزاحم أحد مالكا في ملكه من غير حق مستحق ، ثم الضرورة تحوج ملاك الأموال التبادل فيها ; فإن أصحاب الأطعمة قد يحتاجون إلى النقود ، وأصحاب النقود يحتاجون إلى الأطعمة ، وكذلك القول في سائر صنوف المال .

        779 - فالأمر الذي لا شك فيه تحريم التسالب والتغالب ، ومد الأيدي إلى أموال الناس من غير استحقاق ، فإذا تراضوا بالتبادل فالشرع قد يضرب على المتعبدين ضروبا من الحجر في كيفية [ ص: 495 ] المعاملات استصلاحا لهم ، وطلبا لما هو الأحوط والأغبط ، ثم قد يعقل معاني بعضها ، وقد لا يعقل علل بعضها ، والله الخبير بخفايا لطفه فيها .

        780 - ثم لو تراضى الملاك على تعدي الحدود في العقد ، لم يصح منهم مع التواطي والتراضي إذا بقيت تفاصيل الشريعة .

        فإذا درست [ وقد ] عرف بنو الزمان أنه كان في الشرع تعبدات مرعية في العقود ، وقد فاتتهم بانقراض العلماء ، وهم لا يأمنون أن يوقعوا العقود مع الإخلال بحدود الشرع وتعبداته ، على وجوه لو أدركها المفتون لعلموا بفسادها . وليس لهم من العقود بد . ووضوح الحاجة إليها يغني عن تكلف بسط فيها ، فليصدروا العقود عن التراضي ، فهو الأصل الذي لا يغمض ما بقي من الشرع أصل ، وليجروا العقود على حكم الصحة .

        781 - وفي تفاصيل الشرع ما يعضد هذا ، فإن رجلين لو تبايعا ، ثم تنازعا في مجلس القاضي ، فادعى أحدهما جريان شرط مفسد للعقد ، فأنكره الثاني ، فالذي صار إليه معظم الفقهاء [ ص: 496 ] أن القول قول من ينفي المفسد ، والعقد محمول على حكم الصحة .

        وهذا ما ذكرته إيناسا وتوطئة لمساق الكلام .

        وإلا فلا [ معتضد ] في مثل ما ذكرناه لأهل زمان درست فيه تفاصيل الشريعة ، غير أن الكلام يجر الكلام ، وما ذكرناه في الزمان العري عن التفاصيل مقطوع به ، فإن الخلق مضطرون إلى التعامل لا يجدون لهم منه بدا .

        وقد ذكرنا أن الحرام إذا طبق طبق الأرض ، أخذ الناس منه أقدار حاجاتهم ، لما حققناه من نزول الحاجة في حق العامة منزلة الضرورة في حق الآحاد .

        وهذا مع بقاء الشريعة بتمامها وجملتها ، فكيف إذا مست الحاجة إلى [ التعامل ] ، ولم يجد الخلق مرجعا في الشرع يلوذون به ؟

        782 - ثم إذا ساغت المعاملات ، فلا تخصيص بالجواز ، فإن منها ما هو وصيلة إلى الأقوات والملابس ونحوها ، ومنها ما هو تجائر ، ومكاسب لا سبيل إلى حسمها ،

        783 - والقول الضابط في ذلك أن ما لا يعلم تحريمه من [ ص: 497 ] المعاملات ، فلا حجر فيه عند خلو الزمان عن علم التفاصيل والقول فيه كالقول في إباحة الأجناس ، وقد تقدم موضحا مفصلا .

        وهذا بيان العقود الصادرة عن التراضي . فأما التغالب ، فلا يخفى تحريمه ، ما بقيت أصول الشريعة .

        784 - وقد ( 262 ) تقع صورة عويصة ، لا تدرك إلا بعلم التفصيل ، مثل أن يغصب رجل ساجة ، فيدرجها في أثناء بناء له ولو انتزع لتهدم البناء .

        فقد يخطر لبعض الناس أن الساجة تنتزع وترد إلى مالكها ، لأنه ظالم لما غصب منه ملكه ، وقد يخطر للآخرين أن في هدم بناء الغاصب تخسيره ، وإحباط ملكه ، وذو الساجة يجد بثمنها مثلها ، فيتعارض في مثل هذا إمكان النزع وتحريمه ، ولا سبيل لأهل الزمان إلى الحكم بالظن . وترك الخصومة ناشبة بينهما ، يجر ضرارا عظيما .

        [ ص: 498 ] ولو قلنا : يتوقف في الواقعة ، ففي التوقف اتباع الحيلولة بين مالك الساجة [ وبينها ] وهو تنجيز مراد الغاصب الباني .

        785 - فالذي تقتضيه الحالة أن يغرم صاحب البناء لصاحب الساجة قيمتها ، فإن مما يقطع به من غير تعريج على ظن أن الحيلولة بين المالك وملكه من غير عوض محال ، مع إمكان بذل العوض ، ورد عين الساجة مظنون ، و [ لا ] سبيل إلى بناء الأمر على الظنون مع عدم المفتين ، وانحسام الطرق إلى درك مذاهبهم .

        فليتخذ الفطن ما ذكرناه معتبرا في أمثال ما نصصنا عليه .

        786 - وإن أشكلت على أهل الزمان أن ما في أيديهم محرم أم لا ؟ فقد ذكرنا أن أخذ الحاجة من المشتبهات إذا عمت سائغ مع استقلال العلماء بالتفاصيل ، فما الظن والزمان خال عن معرفة التفاصيل ؟ .

        787 - ويجوز الازدياد على قدر الحاجة في خلو الزمان عن المشتبهات ; فإن أهل الزمان لم يستيقنوا تحريما في الزائد على مقدار الحاجة ، وقد تمهد أن ما لم يقم عليه دليل التحريم ، فلا حرج [ ص: 499 ] فيه في الزمان الشاغر عن حملة العلوم بتفاصيل الشريعة ( 263 ) فهذا منتهى المقصد فيما يتعلق بالمعاملات .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية