الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
خامسا: الإنسان بين التقدم والتخلف

اعتادت بعض الأنظمة أن تصنف العالم إلى متقدمين ومتخلفين، وطبعا اختارت لنفسها التقدم، ودمغت غيرها بالتخلف، وكان أبطال هذا التصنيف من أصحاب النظم الشمولية، ومن يقلدها في المشرق العربي.. ومعلوم أن الأنظمة الشمولية هي الأسوأ في العالم، قديما وحديثا، وقد قدرت المصادر الغربية وأيدتها المصادر الشيوعية أن "ستالين" تسبب في معاناة خمسين مليونا من شعبه بين قتيل وسجين ومشرد ومهجر.. وهذا العدد الهائل لم يعرفه العالم خلال قرون، ومع ذلك صنفت الشيوعية كنظام تقدمي، وصنفت جميع الأديان بأنها مورفين الشعوب.

في حوار مع أستاذ غربي يعمل في جامعة خليجية، قيل له: لقد دخلنا الأندلس باثني عشر ألف مقاتل، وخرجنا بثلاثة ملايين، وبعد أن أقمنا حضارة كانت ملء السمع والبصر، وبعد إقامة دامت سبعة قرون، ثم قمتم بحملة بربرية قتلتم الألوف ونصرتم بالقوة ألوفا، وحين حاول السلطان العثماني سليم القانوني إجبار النصارى على الإسلام أو الرحيل، وقف الفقهاء في وجهه، ومنعوه من ذلك.

وحدث حين دخلتم القدس، وضعتم السيف في رقاب المسلمين حتى سالت القدس بالدماء، وحملتم من جماجم المسلمين [ ص: 99 ] الألوف وأرسلتموها "هدية"، فلما استرجع صلاح الدين القدس سمح لكم بالخروج ومعكم الأموال، فكيف تفسر ذلك؟

الجواب:

كل هذا صحيح لا جدال فيه، أما تفسيري فبسيط للغاية، فالإسلام يختلف عن النصرانية، وسلوك المسلمين يختلف بالتالي عن سلوك النصارى، ومن هنا جاء الاختلال، ولا بد من عودة للوراء، فحين راحت النصرانية تنتشر، وقف الرومان منها موقفا معاديا.. مدة ثلاثة قرون وربع، كانت العلاقة بين الدولة الرومانية والنصرانية في غاية التوتر، فكثر القتل والمطاردة والسجن. وفي عام (325م) حدث أن والدة الإمبراطور قسطنطين راحت تحثه ليتنصر وينصر الدولة، وقد باشر ذلك، فتوقفت عمليات القتل والمطاردة للنصارى، وشيئا فشيئا راحت الدولة تطلى بالنصرانية، لكن شيئا لم يتغير من سياسة الدولة أو التشريع.

فقد جاء "الدين" متأخرا جدا، وكان يطلب الشرعية من الدولة، ولما حدث الصراع مع الكنيسة وانتصرت الدولة، طرحت العلمانية كحل وسط.. هذا من حيث التاريخ، أما التشريع فالإسلام عقيدة وشريعة، دين ودولة، ولم تكن النصرانية كذلك، فهي عقيدة وعبادة بدون شريعة.

الأمر الآخر جدا، أن الإسلام كدين، سابق ومتقدم على [ ص: 100 ] الدولة، وقد أقام الدولة كما يريد، ولذا فالشرعية للدولة تطلب من الإسلام، وشرعية النصرانية تطلب من الدولة.

الحاكم فوق الكنيسة، والحاكم المسلم هو خليفة عن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس أكثر، ولذا فهو شرعي ما رضي عنه الإسلام، فإن ابتعد سقطت شرعيته. الدولة في الإسلام خادمة للدين وليس العكس.

تبقى قضية النزاع في المجتمعات النصرانية، فقد كان ضد الكنيسة وتجاوزات رجالها، وأما النزاع في المجتمعات المسلمة، فضد الدولة وتجاوزاتها.. الدولة في الإسلام مدنية، محكومة بشريعة الإسلام، وفي النصرانية الأولى كانت كهنوتية، تستمد السلطة من الله، ولا يوجد من يحاسبها إلا الله.

ونظرا لكل ما تقدم، وبعد إقامة في بعض الدول العربي قاربت عشر سنوات، خلصت إلى نتيجة: إن كثيرا من سلوكيات المسلم، لا يرضى عنها الإسلام أولا، وأن أقصر طريق لتقدم المسلمين هو الأخذ بالإسلام عقيدة وشريعة، وبطريقة جادة بعيدة عن الشكليات والطقوس الخارجية.

أما عن سبب اختلاف النصارى والمسلمين قديما، فقد كان يعود لأن الإسلام عقيدة وشريعة، وكان الفرد المسلم حريصا لدرجة عالية علا الالتزام بأوامر الإسلام، أما النصراني فليس لديه شريعة، [ ص: 101 ] وما عنده من أوامر تتعلق بالمحبة والتسامح فلا وجود لها في ميدان التطبيق، لذا كثرت الحروب بين النصارى ، وكل فريق تمكن من آخر سامه سوء العذاب، وما زالت المطاحنات في إيرلندا بين الكاثوليك والبروتستانت تذكرنا بانعدام التسامح وفقدان المحبة، مع ذكرهما في كل صلاة تقريبا.

يدرس د. برهان غليون الفارق بين استناد الأخلاق للوحي وانفصالها عنه، فيقول [1] : لقد أدى إسناد القيم الاجتماعية إلى الوحي - بعد أن كانت تستند إلى سلطة أرضية ملكية مقدسة - إلى تطور كبير لمفاهيم الإنسانية والعدالة والكرامة والمساواة والحرية، بينما أثار انفصالها عن الدين، في مرحلة لاحقة ... مخاوف وشكوكا متعددة، وقد أتاح هذا الانفصال أيضا تمييزا أفضل لحقل الأخلاق عن حق القانون، وفي الحالتين، أدى تبدل الإطار المرجعي إلى ثورة حقيقية جديدة في ميدان الأخلاق.

ففي الحالة الأولى، أصبحت قدسية النفس الإنسانية، وكرامتها جزءا من القدسية الإلهية، واستقلت عن أهواء السلطة لتصبح أساسا للمساواة في الإنسانية، إذ أصبح جميع الناس أبناء الله، [ ص: 102 ] وأصبحت عبودية الجميع له شرطا لمساواتهم أمامه، وبذلك ضمنت الأخلاق لنفسها القوة والديمومة، وصار من الممكن للاجتماع البشري أن يتجاوز الممالك الصغيرة إلى الإمبراطوريات العالمية الكبرى التي طبعت تاريخ آسيا والشرق جميعا بطابعها المنفتح والإنساني والتعددي، وشكلت من جميع الوجوه ثورة في مفهوم الإنسان ونظرته إلى نفسه وإلى رسالته.

ومع ما أصاب هذه الأخلاق الدينية من تراجع وضعف مع تطور الحضارة ونفاد الجذوة الأولى الروحية، دعت الحاجة إلى إعادة بناء هذه القيم الإنسانية على أسس جديدة، فنشأت فلسفة أخلاقية حديثة، جعلت من العقل السند الأساس لها، باعتباره ملكة مشتركة للحكم عند جميع الناس، وخلف حدود الأديان والأجناس، وقد ترافقت هذه الثورة العقلية في مجال الأخلاق بنمو مفهوم الإنسان كعضو في مجتمع، وبنمو مفهوم الجماعة القائمة على تعاون الأعضاء، من أجل سعادتهم، وتدبير شئونهم، ومضاعفة قدراتهم وحرياتهم، وهو مفهوم جديد بالمقارنة مع ما كان سائدا من تمحور كيان الجماعة حول زعيم ملهم أو مقدس، أو فكرة مقدسة رسالية.

وما حصل في هذه الثورة التي بدأت تختمر في المجتمعات الغربية، منذ نهاية القرون الوسطى، وبسبب ما شهدته هذه القرون [ ص: 103 ] من عسف وتفريط بالقيم الدينية، لمن يكن يعني إلغاء الأخلاق بقدر ما هو تحقيق الفصل بينها وبين الدين، أو بالأحرى تأسيسها على مصادر جديدة، وجعلها أخلاقا مدنية.. ولذلك فإن الأخلاق العقلية التي أسست نفسها على فكرة الواجب، كما عبر عنها الفيلسوف الألماني " كانت " لم تلغ المبادىء القديمة، التي تحرم القتل والسرقة والكذب والغش ... إلخ.

ولكنها أبرزت أن الحفاظ على هذه القيم والمبادىء لم يعد ممكنا إلا إذا استند على اقتناع عقلي، ولمن يكن هذا التطور في الواقع إلا أحد مظاهر حركة "العقلنة" العامة، التي شهدها المجتمع الغربي في القرون الماضية، كمحاولة لرأب الصدع، الذي خلقه تحلل الأيدلوجية الدينية وفسادها، وما كان لها مع ذلك أن تنشأ، لو لم تتحقق من قبل وحدة الإنسان وقدسيته في الأديان السماوية أو المقدسة.

أزمة من أزماتنا

يتحدث د. غليون [2] عن أزمة يعيشها المجتمع العربي، تتمثل في عجز "التحديث" عن تقديم مشروع لأخلاق عقلية، على حين يقوم "التحديث" بتدمير الارتباط بين الأخلاق والدين، فلم نبق على الارتباط القديم، ولا أفلحنا بإنشاء ارتباط جديد. وهذا نموذج [ ص: 104 ] محزن لهدم وفشل في البناء شمل أكثر من قضية.

يتحول غليون بعد ذلك لنجاح الإسلام في أن يوحد ما بين الدين - كمصدر لأخلاق فردية - وبين الشريعة كمصدر لنظام اجتماعي سياسي مدني: إن مضمون التجربة الإسلامية الأساسي هو نجاح الإسلام إلى وقت قريب في التوفيق بين مقتضيات الدين والدنيا، أي تطوير المسائل الأخلاقية والسياسية والقانونية، التي تواجه الجماعة المدنيةـ على قاعدة من السند الديني، ولم يضطر من أجل حفاظه على الدنيا، وتحقيق مكتسباته المدنية إلى التخلص من الدين، أو شن حرب شاملة عليه، كما حصل في المجتمع الأوروبي، ولهذا لم تظهر العلمانية كمطلب أساسي في أيدلوجية التقدم الحديث الأولى، بل بالعكس، فقد اعتبر المسلمون الأوائل أن تدعيم الشعور الديني وتنقيته، هو الوسيلة الأساسية لتدعيم الشعور الأخلاقي، وتقوية الشعور بالواجب، والالتزام بقضايا الجماعة والتضحية في سبيله [3] واليوم تشتعل معركة حامية بين الإسلاميين والعلمانيين، وسيكون من نتائجها التي تشبه لعبة شد الحبل، عدم تطور المجتمع، والانشغال بالحرب الكلامية، ثم الوقوف عندها وعدم تجاوزها. [ ص: 105 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية