الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
4- معرفة البشر

لكي يكون الإنسان أهلا للشهادة على غيره، يجب أن يعرف ذلك (الغير) ، معرفة دقيقة جيدة، وإلا فليس أهلا للشهادة.. والملاحظ أن علوم الحياة تتقدم بخطى ثابتة، بل تقفز قفزات كبيرة، ربما لم يشهد العالم لها مثيلا من قبل.

لكن علم الاجتماع وعلم النفس والتربية ما زالت تحبو، وخط سيرها متعرج، وجل أمورها ظني تخميني، وما تثبته مدرسة تنقضه أخرى وتهدمه.

ومن عجب أن الإنسان يسير المركبات ، لمعرفة الكواكب القريبة والبعيدة، وهو لم يكشف نفسه.

نعم إن رجال التربية والاجتماع والنفس، ما زالوا يبذلون جهودا لفهم الإنسان، ومحاولة معرفة كل ما لديه، ولكن يمكن القول: بأنهم ما زالوا في بداية الطريق. [ ص: 94 ]

إن الإنسان ذلك المخلوق المكرم، المعتز بنفسه، يملك شخصية فذة، هي نسيج عجيب معقد، فيه موروثات نفسية وبدنية، وثقافة عامة يكسبها من بيئته ومحيطه، وعلم ومعرفة يتلقاها ويكتسبها، ظروف اجتماعية تحيط به، وتؤثر على سلوكه ونفسيته، إضافة إلى عوامل أخرى تعمل متشابكة متداخلة لتكون شخصية متميزة.

إن علوم الإنسان ما زال جلها "فرضيات"، لم تمحص ولم تصل حد النظريات، ولا الحقائق العلمية المقطوع بها، لا فرق في ذلك بين علم التربية وعلم النفس والاجتماع والفلسفة.

والإنسان يتساءل: لماذا يفلح الإنسان في كافة ميادين العلم والمعرفة والتقنية، ثم يفشل في فهم ذاته؟

وفي الإجابة يمكن القول: بأن كل علم ومعرفة له "مرجعية"، أي إطار توجيهي، أو لنقل قواعد أساسية تمنحه بعض الخطوط العريضة، أو الكليات التي مهمتها أن تعصم من يأخذ بها من الوقوع في التيه أو التخبط.

وقد كان كل ذلك متوفرا في "الوحي" وما جاء به الأنبياء، وآخرهم نبينا عليه السلام ، فلما ابتعد الغرب عن الله وهديه، تخبط الإنسان وما زال يتخبط. [ ص: 95 ]

إن الإنسان جسم وعقل وروح وعواطف وأشواق، فإذا جرت العناية بالجسم فقط حصلنا على مصارع أو ملاكم أو عداء مثلا، وإذا جرى اهتمامنا بالعقل فقط حصلنا على فلاسفة وعلماء، وقد تكون نهاية العالم على أيديهم، فيما يخترعون ويصنعون.

فإذا اهتممنا بالروح فقط فيمكن أن نحصل على جيش من الرهبان، وإذا اهتممنا بالعواطف والأشواق فقط فقد نحصل على شعراء أو فنانين.

فإذا اهتممنا بكل مكونات الإنسان، وبشكل متوازن، حصلنا على إنسان سليم متوازن، ومن ثم حصلنا على حضارة متوازنة تخلو من الانحراف.

إن الذي يصعب جحوده، هو ما قام به الغرب من جهود جادة لدراسة الإنسان وفهمه، ولكن العلة - في نظري - كانت متمثلة في فقدان المرجعية.. فالكل يبحث كما يشاء ليصل إلى ما يشاء، ثم ليناقض الكل الكل، ويهدم عالم الاجتماع وما يقوله عالم النفس وبالعكس.. أما المسلمون ولديهم المرجعية والمقدمات الأساسية لفهم الإنسان، فقد أهملوا ذلك، كما أهملوا الاشتغال بعمارة الأرض، وإقامة الحضارة، مع أن ذلك هو واجبهم، بعد عبادة الله تعالى. [ ص: 96 ]

وحتى لا نتهم بنكران الجميل، فإن الذين اشتغلوا بعلوم الإنسان وعلوم الحضارة كانوا في معظمهم ممن يقتنع بالمنهج الغربي، ويتولونه، ويثقون به تمام الثقة، وهم بذلك من الغرب وإليه، وإن كانوا منا دينا ولغة ووطنية.

وبالمثل، فإن اليهودي والنصراني والمجوسي، الذي كان يكتب ويبحث - أيام كانت حضارتنا سائدة - كانوا أجزاء منها، لأنهم كانوا يخدمونها، وهي تخدمهم بما تقدم لهم من وسائل.. وكذلك - يمكنني الادعاء - بأن العربي والمسلم، الذي يشتغل باحثا ومؤلفا ومخترعا في الغرب، هو جزء من حضارة الغرب وليس جزءا منا.

إنه يستعمل المنهج الغربي، والعلم والتقنية الغربية، وحتى اللغة، ويعمل - وهذا المهم - لحل المشكلات التي تواجه المجتمع الغربي، وإن درس مشكلة من مشاكلنا فيدرسها منهجا واستثمارا للغرب، لا أقول هذا بهدف اللوم، ولكن تقريرا للواقع، كما يظهر لي على الأقل.

وختاما، أدعو للتمسك بالمرجعية في فهم الإنسان، والتعامل معه، وأريد أن تكون دراستنا مؤطرة بذلك كي نفهم الإنسان [ ص: 97 ] المسلم أولا، ونستطيع النهوض به ثانيا، فإذا تركنا هذه المرجعية فأي مرجعية نعتمد [1] إن فهم الناس عموما يتطلب معرفة بتاريخهم وجغرافيتهم وتركيبتهم السكانية، والمشاكل التي يعانون منها، وبدون ذلك فإن التعامل لن يكون ناجحا.

في إفريقيا ، حيث الفقر يضرب القارة السوداء ضربا مخيفا، تجعل الإفريقي يقدم أولاده إلى كوبا لتأخذهم وتعلمهم الماركسية وحرب العصابات، كما كان يقدم أولاده للدراسة في جامعة الكادحين في روسيا ، دون معرفة بالنتائج ولا ما يدرس ولده.

في اليابان البلد الصناعي الفني، إذا قدمت كتابا لشخص يحرص على دفع ثمنه، ولا يفهم سببا لكون الكتاب بلا ثمن، ويرفض ذلك.

وإذا جربت مخاطبة الياباني باسم المشرق والعادات الشرقية، يقبل عليك، ولو طلبت منه أن يشهد أن لا إله إلا الله، ولا مانع لديه، ولكن الإنسان الغربي يرفض ذلك بنوع من التعالي، ويقول: إنه نصراني. [ ص: 98 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية