الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثانيا: الكون

وهو ما سوى الله تعالى، خلقه الخالق كما أراد وفق قدر مسبق، ولذا فهو مخلوق "فكري " بالدرجة الأولى، مادي بالدرجة الثانية، وهذا ما توصل إليه علماء الفلك أخيرا، أمثال " السير أرثر " البريطاني، الذي يكرر أن مادة الكون عقلية.

ومثله " جيمس جنز " الذي يرى بأن الكون كون فكري، ولم يعد يقبل التفسير المادي، في ضوء علم الطبيعة الجديد، وحتى التفسير المادي قد صار أخيرا "فكرة ذهنية " وينتهي للقول: "وإذا كان الكون كونا فكريا، فلا بد أن يكون خلقه كان عملا فكريا ". ويشاركهم " ج.و.ن. سوليفان " هذا الاعتقاد [1] إذن فالإنسان والكون مخلوقان لله تعالى، ولم يتطورا عن شيء، بل خلقا ابتداء، وفق تصور سابق وقدر قاهر.. أما ضبط حركة الكون، فجاء وفق سنن ونواميس إلهية، يحلو للبعض أن يطلق عليها "قوانين الطبيعة".

وقد سخر الله الكون للإنسان، كما سلطه ومكنه من كشف سننه وقوانينه، وذلك عن طريق الملاحظة والتجربة، وقد كشف الإنسان الكثير من هذه القوانين، وما بقي قد يكون أكثر من ذلك. [ ص: 37 ]

وقد سقطت الكنيسة الكاثوليكية في وهم قاتل، حين اعتبرت كل كشف وكأنه لإرادة الله، وليس هو كذلك.. فمعرفة قوانين الفلك، وحركة الذرة، وقوانين الفيزياء والكيمياء، ومثل ذلك علم الحيوان والنبات، كل هذه العلوم والمعارف مما يسر الله للبشر الكشف عنها، وكما يقول علماء الكلام: فإن دقة الصنعة تدل على عظمة صانعها، فالكون كتاب مفتوح، المطلوب أن يكون وسيلة للتعرف على خالقه والإيمان به.

وكما أن صانع الآلة يعلم جيدا مهمة كل قطعة فيها، وهو أفضل من يحسن صيانتها، فكذلك خالق الكون هو الأعلم بما يصلحه.. ولأن دور الإنسان دور المنتفع فعليه أن لا يتجاوز ذلك، فيتصرف وكأنه المالك المطلق اليد، يعبث في الكون ويخرب فيه، فيفسد البيئة، يقطع أشجار الغابات، أو ينشر التلوث، أو يملأ الأرض بالمبيدات الضارة والصناعات القاتلة.

إن فهم الكون اختلط أحيانا بالأساطير، أو بالربط بين حركة الإنسان والنجوم، فجاء الإسلام يرفض ذلك كله، فمن يتردد على كاهن أن عراف، ثم يؤمن بما يقوله، فقد يوصله ذلك إلى الكفر. وحين مات إبراهيم، ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصادف كسوف الشمس، فربط الناس بين الحدثين، سارع صاحب الرسالة لنفي [ ص: 38 ] هذا الربط، معلنا أن الشمس ومثلها القمر آيتان من آيات الله، لا تخسفان ولا تكسفان لموت أحد.

كما حرم الإسلام الشعوذة بأنواعها، والدجل بأنواعه، وحرم تعاطي السحر، وجعل عقوبة متعاطيه القتل، بل حرم تعاطي المسكرات لأنها تفسد العقل.

وأختم البحث برأي لعالم الاجتماع الأمريكي " إريل فروم " يتحدث فيه عن أن علاقة الإنسان بالطبيعة، راحت تتسم بالعداء والاحتقار معا [2] : "إن علاقة الإنسان بالطبيعة، اتسمت بالعداء الألد ... ظروف وجودنا تجعلنا جزءا منها، وموهبة العقل تجعلنا نتفوق ونعلو عليها، ومن ثم فقد حاولنا أن نحل معضلة وجودنا بنبذ رؤية الخلاص، المتمثلة في الانسجام بين الجنس البشري والطبيعة، واتجهنا نحو إخضاعها وقهرها، وتحويلها لخدمة أغراضنا، حتى أصبح هذا القهر مرادفا لتدمير الطبيعة.

إن روح العداء والإخضاع أعمتنا عن حقيقة أن للموارد الطبيعية حدودا يمكن أن تستنفد، وأنه سيأتي الوقت الذي سترد فيه الطبيعة على جشع الإنسان. [ ص: 39 ]

إن المجتمع الصناعي يحتقر الطبيعة، ويحتقر كل ما ليس من صنع الآلة، ويحتقر الشعوب التي لا تصنع الآلات، فالناس اليوم ينجذبون لكل ما هو ميكانيكي آلي، ولما لا حياة فيه، وينجذبون يوما بعد يوم للتدمير " .

إن التلويث للبيئة يقوم به الإنسان الأكثر ترفا، فالفرد الأمريكي يعادل ألف هندي أو أفريقي، في هذا الميدان.

في بلد عربي أراد إقامة مصنع نسيج كبير، فوضعه على حافة نهر صغير، وبعد مدة، ونتيجة لإلقاء المخلفات الصناعية والأصباغ والزيوت، والمواد الكيماوية، تلوث ماء النهر فلم يعد صالحا لشرب الإنسان أو الحيوان، حتى الأسماك لم يعد بمقدورها العيش، وهكذا يفسد الإنسان الطبيعة! وقد سجل شاعر ذكي مثل هذا الفساد، فقال:

كلما أنبت الزمان قناة ركب المرء في القناة سنانا

ينبت النبات، فيحول الإنسان بعضه إلى أداة قتل، وخلق الله الحديد، وجعل فيه بأسا، فصنع الإنسان منه الدبابة والمدفع والقنبلة، وكان بإمكانه أن يصنع محراثا أو آلة للحصاد، أو وسيلة لنقل الماء. [ ص: 40 ]

ولعل الأقبح من كل ذلك ما ينشره الإنسان من فساد في الكون وإفساد، ومن عبث، ربما كان الاستنساخ من أواخر نماذجه.

هناك اليوم ملايين من البشر بحاجة إلى الطعام والدواء واللباس، وهناك ملايين الحيوانات تموت جوعا وعطشا، على حين ينفق المترفون المليارات على تدخين السجاير، أو حرب النجوم، أو إرسال مركبات فضائية تكلفة الواحدة تكفي لإطعام مليون جائع، وألف مستوصف.

إن ثمن دبابة قاتلة يبني أكثر من مدرسة، ويوفر الطعام والدواء لألوف الجياع، فلماذا يجنح "المترفون " للشر والعبث؟!

لماذا تتصاعد الغازات بهذه الكثرة حتى تحدث ثقبا في طبقة الأوزون عمرها ملايين السنين؟

الإنسان المترف صار العدو الأول للطبيعة، يعبث فيها عبثا مخيفا فالغابات -على سبيل المثال- تعيش مرحلة الفناء التدريجي، ذلك أن ثلث الأشجار التي كانت موجودة عام 1882م، ومساحتها حوالي ملياران من الهكتارات، قد أزيلت حتى عام 1952م. والإتلاف مستمر وآخذ بالاتساع، كل دقيقة يتلف الإنسان عشرين هكتارا من الغابات في العالم. [ ص: 41 ]

إن كمية الورق اللازم لعدد "الأحد " من صحيفة نيويورك تايمز، والذي يحتوي على ثمانين بالمائة من الإعلانات الدعائية، يتطلب قطع (15) هكتارا من الغابات الكندية، كما يتطلب العدد اليومي (6) هكتارات، فاجتثاث الإحراج الجاري بلا روية ولا تبصر من أطراف الهملايا، يحدث اليوم فيضانات مدمرة في بنغلاديش ، كما تولد الزراعة الموروثة عن الاستعمار ألوان الجفاف في الساحل" [3] وأخيرا: لماذا يصر هذا المترف على القول: بأنه يقهر الطبيعية؟! ألا يكفيه قهر البشر، حتى توجه إلى الطبيعة ليقهرها؟!

وأختم بقول الحق: ( ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة ) (لقمان: 20) .

وقوله: ( ألم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض والفلك تجري في البحر بأمره ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه إن الله بالناس لرءوف رحيم ) (الحج: 65) . [ ص: 42 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية