الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
شبابنا والفراغ الروحي

في أحاديثي مع طلبتي في الجامعة، أشكو من قلة الاهتمام بالحضور، ومن قلة الاهتمام بالدراسة، حتى المذكرات والكبت أراها متروكة في الأرض، فلماذا كل ذلك؟

يرد الطلبة: نحن ندرس ونسهر الليالي في الثانوية كي نحصل على درجات تؤهلنا لدخول الجامعات، فإذا نجحنا وجدنا الألوف تتزاحم على بضع [ ص: 141 ] مئات من المقاعد، ومن قبل فهو يعلم سلفا أن لا توظيف فعد التخرج، ومن كان أهله أغنياء، تزوج وشق طريقه في الحياة، ومن كان فقيرا فعليه الانتظار.

الخلاصة، نخشى أن يصبح الشباب بدون أمل ولا عمل.. فمن أين تتوفر لديه الرغبة في الحضور والمذاكرة؟

تعرفت على طالب في بدل عربي، فأخبرني أنه نجح في امتحان الثانوية العام، لكن معدله كان ضعيفا، فراح يعيد الامتحان على مدى أربع سنوات متوالية، ليحصل على مقعد في الجامعة، في الوقت الذي تخرج فيه زملاؤه.

هذه نماذج لمعاناة شبابنا، ولك ذلك يصيبهم بنوع من الإحباط واللامبالاة وفقدان السند الأخلاقي والفراغ الروحي، ويكون صورة مظلمة للمستقبل "ولعل نظرة سريعة على حياة الأجيال الجديدة، في بلاد العالم الثالث، تلك الأجيال التي فقدت سندها الأخلاقي، كافية لرؤية الفراغ الروحي، الذي تعيش فيه، وانعدام الأفق والأمل والإيمان بشيء ، سوى المشاركة الوهمية والسرابية بحضارة استهلاكية ليس لهم منها سوى القشور، ولا يخفف من شعورهم بالحرمان إلا قناعتهم بالدونية والسقوط، وغربتهم في عالم لا يعرفونه ولا سلطة لهم عليه.. وهكذا تظهر الحداثة كانخلاع للإنسان من كل إطار اجتماعي ومعنوي، وإنتاج موسع لحشود من المشردين الذين ينظرون على أبواب المجتمع الاستهلاكي، في حضارة الصوت والصورة، المصبوغتين بالعنف والدم.. ضد هذا الانخلاع والتشريد، وضد هذا المصير [ ص: 142 ] الحزين، تستجمع بعض الجماعات قواها المعنوية ومنابع قيمها التاريخية، في حركة بائسة لحفظ مدنيتها المهد ... " [1]

إن هذا الشباب سيظل يبحث لأزمته عن مخرج، إما بالهرب والهرولة نحو الغرب ليعمل خادما في مطعم، وليتعلم غسل الصحون، وهي مهنة حضارية عظيمة! أو ينعطف نحو الدين وقيمه، وليتحول إلى مجاهد مستعد للقتال ولو بأظافره، أو يشتغل في المخدرات، مروجا أو متعاطيا، أو كليهما، أو يكون عصابات لسرقة السيارات أو البيوت.. كل هذا وارد وعلى من يعنيهم الأمر أن لا يعولوا على "العصا" فقط.. فالشباب المحبط الذي لا يجد له مقعدا للدراسة، والمتخرج الذي لا يجد فرصة كسب وعمل، تمكنه من الزواج، لا تخيفه العصا، وربما صارت عقيدته: من يغلق الأبواب بوجهي فهو عدوي، وعلى أن أحطمه.. وويل لمن يقف في وجه شاب ثائر يعيش بلا حلم ولا أمل ولا عمل.

قبل قرون صرح ابن حزم ، فقيه الأندلس الكبير: عجبت لمن لا يجد طعام يومه كيف لا يخرج حاملا سيفه! وأقول: عجبت لمن لا يجد مقعدا دراسيا، ولا وظيفة، ولا فرصة عمل، ألا يصير ثوريا ويقاتل حتى ظله!

مفارقة

كان أمل أهل الحداثة إقصاء الدين والثقافة الدينية والأخلاق المستندة للدين، وتحديث البلاد والعباد، ولكنهم وبعد عشرات السنين، ما زادوا أن صاروا [ ص: 143 ] سدنة للاستبداد السياسي والعمالة الثقافية، وأعداء الداء لكل تغيير لأنهم الكاسب الكبر من الأوضاع المعوجة، والحليف لأي سلطة، مهما كانت، ومن أي نوع كانت.

على حين صارت "الثقافة التقليدية" هي التربة الخصبة لازدهار القيم الحديثة والدفاع عنها، قيم الحرية والعزة الوطنية، والاستقلال السياسي، والكرامة الإنسانية والعدل الشامل.. فالدين والثقافة التقليدية هي التي تغذي المقاومة ضد السيطرة الأجنبية، والتصدي لكل اعوجاج، وهي التي تحفظ للجماعة الحد الأدنى من التوازن، وتمنح الأمل، وتخفف ضغوط الحياة المادية، وتصد أو تمنع تحكيم البنية الاجتماعية، وهي التي صارت تمتص الكثير من مفرزات الفشل في شتى الميادين.

إنها اليوم تحيي التكافل وتحرم التبذير، وتدعو للعيش وفق نمط استهلاكي غير مكلف، إنها ما زالت تشكل الرأسمال الاجتماعي، وربما المعنوي الذي تعيش منه وعليه الجماعة القومي، وتقي نفسها به من السقوط في الوحشية البربرية [2] لقد كانت الحداثة حتى الأمس القريب تصف الدين والأخلاق الدينية بأنهما مسكنان مخدران، ثم فجأة راحت تصفهما بالثورة والتحريض. [ ص: 144 ]

بينما صار الحداثي المنتفع الأول من الفساد، مدافعا عن أي نظام ولو كان نقيض طروحاته وما يدعيه من قيم.. لقد تحول إلى مسوق ومروج للسلطان، مهما كان ومهما كانت طبيعته، إنه اليوم يشعر بأكبر قدر من الحسد والغيرة، ولذا صار همه الأول أن يستعدي السلطان ضد أخيه، بل يستعدي الأجنبي ضد بلده ومواطنيه. إنها مفارقة كبيرة، وما أكثر المفارقات هذه الأيام؟!

التالي السابق


الخدمات العلمية