الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- التحرر تقدم

الإنسان دون سائر الأحياء، له حاجات كثيرة بدنية وعقلية وقلبية، عاطفية وروحية، وكلما كبر كبرت حاجاته.. الطفل الصغير تهديه لعبة صغيرة فيفرح لها أعظم الفرح، وتعطيه الدرهم أو الريال، فكأنما ملك الدنيا كلها، فإذا كبر كبرت حاجاته. فالشاب لا يقبل بالدرهم والدينار، لا يرضى إلا بالسيارة الفارهة، والملبس الجيد الجديد، والمدرسة الراقية، فإذا أنهى الدراسة تطلع للوظيفة الجيدة والراتب الكبير، وبعد مدة يطالب بالزواج والبيت الجيد وهكذا، كلما كبر كبرت حاجاته وتعاظمت حتى: [ ص: 111 ] ( لو كان لابن آدم واد من ذهب، أحب أن له واديا آخر، ولا يملأ فاه إلا التراب، والله يتوب على ما تاب ) [1] .. فإذا سار في هذا الاتجاه صار عبدا لحاجاته.

وساعد على هذا التوجه أن حضارة اليوم مادية حتى النخاع، وسويداء القلب، ويستوقفني في ذلك شعار " آدم سميث " [2] : "اجمعوا واجمعوا تلك هي الشريعة والأنبياء"، أي اجمعوا المال، فمتى حصل ذلك فهو كل شيء، هو الدين والدنيا معا.

وقد علق الفيلسوف " نيتشه " على ما تقدم قائلا [3] :

على قاعدة هذه الشريعة، يتحول النقد –المال- إلى إرادة من نوع آخر، إرادة رأس المال، التي لا تلغي الإنسان مباشرة، ولكنهما تعطيه الشعور بالقوة الأكثر علوا، والعي الأفضل.

ويعلق د. علي الشامي على ما تقدم قائلا [4] :

"لقد أعمى المال بصيرة الغرب، ولم تعد الحياة بالنسبة إليه أكثر من مجرد مسعى حثيث لإغراقها في مادية لا نهاية لها، ولم يعد "رأس المال" مجرد [ ص: 112 ] حالة عابرة أو خاصة، فقد طبع كل شيء بطابعه، وصار هناك رأس مال للفرد والطبقة والدولة ... وبات كل شيء رهين إرادته، وأصبحت هذه - وفق هذا التحليل - الرأسمالية نقطة ارتكاز في مسيرة الغرب نحو الخارج.. فهي لم تكتف بأن أفلتت النمو الداخلي، وأوصلته إلى أزمة عبرت عن نفسها بزيادة الإنتاج على الحاجات، وبعجز تطويع هذه الأخيرة لصالح السلعة، بل تعدت ذلك إلى نشر رغباتها في بلاد الآخرين، كحل مؤقت لأزمتها، وكإصرار على عدم تجاوز منطقها الاقتصادي نحو الأفضل، لها ولغيرها، لذا لم تتردد "إرادة رأس المال" في تبرير الاستعمار، ومكنت الإنسان الغربي، الذي سرعان ما وجد نفسه مندفعا نحو الخارج، ليمارس هذا التنافس والقتل والنهب والسيطرة، أثناء بحثه عن أرباح اقتنع بأنها وسعادته شيء واحد، كما ترسخ في وعيه اعتبار "زيادة الأرباح" زيادة في السعادة والرفاهية".

إن الغرب جعل حضارته مادية أولا وقبل كل شيء، وهو اليوم بفضل العولمة والشركات الكبرى، متعددة الجنسية، يقتل المنافسة، ويحول العالم - على سعته - إلى سوبر ماركت غربي، تغمره الدول الصناعية بفائض صناعي وزراعي، تزيد في ثمن البضائع، على حين تهبط كافة السلع في دول الجنوب الفقيرة، ومن غير حرج ولا حياء يقف رئيس أغنى دولة يصرح بأنه لن يسمح بارتفاع أثمان [ ص: 113 ] البترول، ليطالب بخفضها، لأنه غني قوي، وليضمن الرفاه لشعبه، وليمت غيرهم جوعا، ثم لا يجد من يقول له: لا!

إنها شريعة الغاب، للقوي كل شيء ولا شيء للضعيف! وقد أجاد " نيتشه " وصف هذه الحالة قائلا [5] : "امتلاك، قمع، إخضاع كل ما هو غريب وضعيف، ظلم، قساوة، فرض لأشكاله الخاصة، دمج، وعلى الأقل: استغلال".

إن حضارة الغرب بتركيزها على الجانب المادي للحياة، وتهميشها واستبعادها لكل ما هو غير مادي، قد تخلت عن الحد الأدنى من الروحانية النصرانية، وتخلت عن كافة الحلول الإلهية، وأطلقت العنان لشهوات الإنسان كلها، وصاغت نظاما أخلاقيا يتمحور حول الفردية والأنانية والحيوانية، بحيث يغدو "الشوق إلى الرفاهية والدعة أقوى بكثير من السعي وراء تحقيق حاجات الروح، وبحيث يصبح الفرد الغربي من أجل ذلك أكثر استعدادا لممارسة العنف ضد الذات، وضد الآخر ... " [6] أليس من المطلوب سريعا أن يتحرر الإنسان الغربي من كثير من مسلماته الحضارية أولا، وأن يكف عن إرهاب الآخرين بحجة أنهم يعادون حضارة اليوم؟ [ ص: 114 ]

في الزيارة الأولى لوفد رئاسي أمريكي للصين، لفت انتباه الكل وفرة وكثرة استعمال الدراجة، فطرحوا أكثر من تفسير لذلك، ولكن الرئيس الصيني رفض كافة التفسيرات ليقول: اخترنا هذه الآلة البسيطة كي لا نحتاج سياراتكم، ولا قطع الغيار لها.

إن العالم بحاجة إلى ثورة ترده إلى البساطة، وتحجزه من هذا الهجوم على الترف، والغرق فيه، وإنعاش الروح قبل أن يختنق.

إن حضارة اليوم تدرب انسانها على مزيد من الأنانية، والمزيد من التنافس، والغرق في الشهوات، ونتيجة كل هذا الغرق في حروب محلية وعالمية، لا تبقي ولا تذر، وقد تحرف كوكبنا الجميل، أو ترد البشرية إلى بدائية قاتلة.. إن حضارة اليوم التي رفعت شعار إسعاد الإنسان، تساهم اليوم بشقائه، وتسببت وما تزال بالكثير من أمراضه، وقد أفقدته الهدوء والسكينة، وحولته إلى آلة تدور؛ والأنكى من كل ذلك أنها تخونه وتستبعده باسم الرفاهية.

"هذه الحضارة التي أرادت لنفسها "إنسانية" تؤدي إلى نظام يحتقر الإنسان ويخونه في نفس الوقت، لكي تدمره في آخر الأمر، إنها تحتقره لأنها تختزله في الوظائف المادية والكمية للمنتج البسيط والمستهلك، وتخونه لأنها جعلته يصدق أنه بفضل التقدم والتكور للعلم، وبنظام اجتماعي أفضل، ومتحرر من آخر الأحكام [ ص: 115 ] السابقة، وأشكال القهر الموروثة عن الماضي، يستطيع أن يبلغ السعادة وينتصر على الألم، والتي هي غالبا ملازمة للوضع البشري، وأخيرا تدمره بإفساده وتحطيمه وحرمانه حياته من المعنى والأمل، كما يقول باسكيه في كتابه (انتشار الإسلام) " [7] ألا تؤمن أخي، بأن التحرر مما تقدم هو عين؟! ألا تؤمن بأن الهرولة وراء الأهداف تستعبد الإنسان في النهاية، وتجعل منه دابة "متقدمة" همها العلف وقضاء الشهوة؟ ألا تعتقد بأن حضارة اليوم أسرفت في الماديات على حساب الروح والعواطف الخيرة؟ ألا تحتاج البشرية إلى ثورة تحررها قبل أن تدمر كل ما صنعت؟

التالي السابق


الخدمات العلمية