الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
3- التقدم الصناعي

عاش الإنسان ألوف السنين معتمدا على الزراعة، تمده وحيواناته ونباتاته بالغذاء ثم راحت بعض المجتمعات تتحول إلى الصناعة، وكان الهدف الأول التغلب على الصعوبات، وجعل الحياة أكثر يسرا.

كان الإنسان يعاني من الفيضانات وصعوبة الحركة، وعدم الحرية في نقل البضائع، فلما اخترع العجلة سهلت له حركته، فلما عرف البخار كان ثورة كبيرة، فلما عرف الكهرباء كانت ثورة أكبر وأعظم، فلما استعمل النفط كان ثورة جديدة، لذا نراه يعمل [ ص: 116 ] جهده لتيسير حياته على الأرض فيهتم أكبر اهتمام بالمواصلات، حتى قفز من الحيوانات إلى العربات ومنها إلى الآلات التي تسير بالبخار، ثم البترول، ثم الطاقة النووية، وهكذا.

ولا يجادل أحد أن حياة الإنسان اليوم أيسر، وأن حركته أسرع، وأن سيطرته على الكوارث الطبيعية تتحسن، ولكنه لم يقف عند هذا لحد، بل راح يصنع ما فيه الدمار الشامل للطبيعة، وما فيها، ولنتصور أن حربا كونية حصلت، واستعمل الكل مخزنه الجهنمي من السلاح، فماذا سيكون مصير العالم؟ إن الإنسان يصنع ما يحتاج وما لا يحتاج، ما فيه خيره ورفاهه وما فيه قتله ودماره.

وإذا كانت الزراعة قد أنتجت - فيما أنتجت- الإقطاع ونظامه، فإن الصناعة قد أنتجت - فيما أنتجت - الرأسمالية التي راحت تبحث عن أسواق داخلية وخارجية، لتصريف منتجاتها.. من هنا جاء الاستعمار ليضمن الهيمنة والأسواق الواسعة.. لقد اعتمدت الصناعة وما زالت على العلم، الذي أنتج الآلة، وبفضلهما نشأ رأس المال الوافر، فإذا حاول الإنسان رسم العلاقة بين العلم ورأس المال والاستعمار، فلن يجدها مجرد تولد عفوي "إنها لم تكن تولدات منطقية بقدر ما كانت إرادة وضع غايات معينة للعلم، انحصرت بشكل أساسي في الاقتصاد والسيطرة، وبالتالي لا يجوز الاكتفاء باعتبار العلم الغربي "سلاحا حضاريا" رغم قفزاته النوعية، [ ص: 117 ] بل ينبغي وضعه في سياق مسار عام، حدد للغرب رؤية ذاتية، للعالم والطبيعة والإنسان والإلهي، كما أمده بعناصر القوة التي تخدمه في تحقيق مصالحه الاستراتيجية.. وبذلك ينتج العلم الحديث نسقا حضاريا وتقنية للسيطرة، وكل ما عدا هذا ليس سوى اهتمامات هامشية.. بمعنى آخر، فقد أسس العلم انتماء ماديا للإنسان الغربي، عملت الرأسمالية على تحويله إلى ضرورة وجودية، وبنية حضارية، فألغت بعملها هذا بعدا مهما من أبعاد الإنسان، وأعني بذلك انتماءه الروحي وعلاقته بالإلهي، التي تستطيع وحدها أن تعطي للعلم غاية أكثر سموا وإنسانية.. وبينما يعطي العلم نزعة السيطرة أدوات هائلة جعلته يتحول بشكل مذهل إلى أهم وسيلة للسيطرة على الشعوب، وبغياب الحضور الإلهي عن مسار الحضارة التي قامت جوهريا على العلم، لا يبقى شيء أمام العلم كي يمنعه من أن يتحول إلى علم تدمير رفيع المستوى ... " [1] وحتى لا يقوم متغرب فيتهمني بمعاداة الغرب وحضارته، والحقد على الغرب وتسلطه، مع إيماني الجازم بأن من استثير فلم يتحرك فهو مشكوك في آدميته أو لنقل في كرامته، فهذا " نيتشه ": ابن الحضارة الغربية، ومع ذلك فهو يقول [2] : "إن ما أقصه عليكم [ ص: 118 ] الآن هو تاريخ القرنين التاليين، فأنا أصف ما هو آت وما لا يكن إلا أن يأتي، وأعني به ظهور العدمية، ويمكن أن أقص هذا التاريخ منذ الآن، لأن الضرورة نفسها، تفرض ذلك، وهذا المستقبل يتحدث عن نفسه في مئات من الدلائل والعلامات، وهذا المصير يعلن عن نفسه في كل مكان، وكل الآذان قد أصبحت مرهفة السمع، لموسيقى المستقبل هذه، إن حضارتنا الأوروبية كلها تتحرك منذ وقت طويل في انتظار "معذب" ينمو من خمسية [3] إلى أخرى، ويؤدي إلى مأساة قلقة عنيفة لاهثة، إنها نهر يريد الوصول إلى منتهاه، إنها لم تعد تفكر إطلاقا، بل إنها تخاف من التفكير".

صورة مظلمة لمستقبل الحضارة يرسمه "نيتشه"، ويشاركه آخرون مثل اسبنجلر وولسون، ويتحاشى توينبي أن يصرح به بوضوح.

المهم أن التقدم الصناعي كان ثورة كبرى، سهلت على الإنسان أمورا لا حصر لها، لكن ككل الثورات لن تكون مأمونة العواقب أو النتائج، وتحتاج إلى ناقد شجاع يميز الخطأ من الصواب، وما هو في مصلحة الإنسانية حقا، وما هو بعيد عن ذلك.

كذلك لا يكفي أن تخدم قلة بشرية على حساب كثرة ما زالت تكافح من أجل لقمة الطعام وعلبة الدواء، أليس من العيب أن يعيش ثلث العالم دون خط الفقر؟ [ ص: 119 ]

أليس من العيب القاتال أن يستولى 20% على ثروة العالم، ويديرونها كما يشاءون ويتمتع الباقون بنعمة التفرج؟ أليس من العار أن تدفع دولة غنية مثل أمريكا مساعدات للفلاحين كي يكفوا عن زراعة المزيد من الحبوب، من أجل أن لا تهبط أسعارها؟

وأخيرا، أليس من العار أن تشعل الدول الصناعة حروبا محلية لتجربة أسلحتها، أو لتأديب الخارجين على بيت الطاعة؟

كتب محمد عابد الجابري [4] : أن تقريرا لمنظمة العمل العربية قدر الأرباح المتوقعة من اتفاقية " الجات " بـ (200) مليار دولار، نصيب العرب كلهم 1%، أي مليارين فقط، بينما يبلغ نصيب المجموعة الأوروبية (32.6) مليار دولار، والولايات المتحدة وحدها ستحصل على

(36) مليارا، وروسيا وتوابعها (31) مليارا، وتحصل اليابان على (27) مليارا.. وما تبقى تتقاسمه دول العالم، أي (73.4) مليارا، فأي عدل هذا ؟!

التالي السابق


الخدمات العلمية