الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
العلم والمرجعية

يطرح د. برهان غليون سؤالا هاما عن مصدر معلوماتنا ومرجعيتها، فيقول [1] : ما هو مصدر معلوماتنا الصحيحة، أي ما معيار التمييز بين الحق والباطل؟ ومن ثم ما الذي يكفل صحة معارفنا وأحكامنا العقلية وصلاحيتها؟ ونستطيع أن نطرح الموضوع بطريقة أبسط فنقول: كيف يكون الواقع مطابقا لذاته؟ أي متسقا ومن ثم معقولا ومقبولا؟

ليس هناك مجتمع يمكن أن ينشأ أو يعيش دون أن يحدد لنفسه أسس المعرفة "اليقينية"، وشروط نمو هذه المعرفة، التي هي أساس نشوء العلم وتطوره، وسبب ومبرر وجوده. ومن هذه الأسئلة يصدر السؤال الأعم، الذي يتعلق بنا مباشرة، وهو: لماذا لم يتطور العلم الحديث في المجتمعات العربية المعاصرة؟ وكيف يمكن تجاوز العقبات التي تقف أمام هذا التطور؟

تفترض أيديلوجية "الحداثة " مسبقا أن الواقع المطابق لذاته هو الواقع الحديث المساير للحداثة، وأن كل مظاهر الحياة التقليدية وأنماطها، ليست إلا واقعا "مفوتا " لا انسجام فيه، أي ليس له أي قوام حقيقي ولا مبرر. [ ص: 30 ]

إن وجوده هو مظهر من مظاهر اللاعقلانية والانحطاط، أي هو شذوذ.. "فالحداثة ": هي معيار العقلانية والصحة، ولا يمكن للمعرفة أن تكون صحيحة ويقينية إلا عندما يكون نموذجا هو الواقع المطابق لذاته، والمتسق في ذاته، أي الواقع الحديث المعاصر. والعلم بوصفه أحد منتجات هذه المعاصرة الكبرى، يشكل إذن بالضرورة، معيار صحة أفكارنا عن الواقع الذي نعيش فيه، فبقدر ما تكون هذه الأفكار مطابقة للعلم، تكون يقينية ... إن مطابقة أفكارنا للعلم هي إذن قاعدة الموضوعية، والعلم كما هو مجسد في نظم معرفية جاهزة، هو ضامن صحة هذه الأفكار ويقينيتها.. إن هذه المحاكمة تقول عمليا: إن أصل المعرفة اليقينية - أي العلم - هو العلم نفسه [2] ...

وإنما تضفي على المعرفة العلمية صفة الحقيقة المطلقة، والمنزلة التي تشكل في ذاتها المبتدأ والمنتهى، وهي لذلك تعجز عن أن تفسر نشأة العلم، وأقل من ذلك، تطوير التجربة العلمية، وتضع نفسها في وضع المترجم الدائم، والناقل للعلوم، أي تخرج من المسعى العلمي، في الوقت الذي تقدس فيه العلم كثمرة وكنتاج [ ص: 31 ] جاهز للعقل. إنها تجعل من العلم معرفة "لا هوتية مقدسة " مفصولة عن الواقع الذي استحدث منه، وعن المجتمع الذي ظهرت فيه، وعن الذات التي أنشأته، وعن المطلب الذي وضع له ... إنها اكتفت بالاستهلاك العلمي، بدل أن تمارس الإنتاج العلمي الحقيقي ... لقد أصبح الموقف السائد: العلم موجود إنه قائم هناك، جاهز ومتطور، وليس علينا إلا أن نأتي به، أن ندخله عندنا، أن نفسح له المجال ونرعاه، وبذلك حرمنا أنفسنا من كل قدرة على مناقشته أو الإضافة إليه.

إن البعض عندنا يهرب من الميتافيزيقية الدينية، ليسقط في ميتافيزيقية علمية، يهرب من حقائق الدين، ليسقط في حقائق العلم، هكذا تبدو العملية [3] إن أهل الحداثة يرون - باسم العلم ومن أجل اكتسابه - أن علينا التخلي عن كل الثوابث،: "وعندئذ فإن المنطق لا بد أن يؤدي إلى نتيجة واحدة، هي أن شرط اكتسابنا للعلوم والعقل، هو التخلي عن تاريخنا وثقافتنا التي هي أصل الفساد والخطأ، وننهل ما أمكننا من [ ص: 32 ] العلم الغربي، دون إدراك أن هذا النهل هو بطبيعته مخالف للعلم، وللمسعى العلمي الصحيح، ولو كان خطوة أولى ضرورية ... إن مسعاهم العلمي ليس كما قلنا إلا صبغ مسبقاتهم الأيدلوجية بالصبغة الحديثة " [4] يعود في نهاية البحث للقول: بأن العقلية العلمية لا تطرد الدين من المجتمع، ولا تجعل هذا شرطا للتقدم العلمي، ويضرب مثلا بأمريكا وإسرائيل .

والناظر في خارطة العالم اليوم يجد أن التوجه للتصالح وليس للاحتراب، ولكن البعض يعتقد أنه يكون قريبا من الغرب كلما أعلن عن عداء للإسلام، دون أن يدرك أن ذلك يقطع صلته بشعبه وأمته، حتى لينظر إليه وكأنه غريب كل الغرابة. البعض بدافع التخفف من الالتزامات الإسلامية يعلن إنكار الدين أو معاداة الإسلام تحديدا، لكن مجرد التمرد والخروج، لا يعني أن صاحبه صار علميا أو تقدميا، لكنه صار غريبا في وطنه.

التالي السابق


الخدمات العلمية