الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
7- الإنسان والمجتمع

ما موقع الفرد من المجتمع؟ هل الفرد ذرة والمجتمع مجموع ذرات، أم الفرد أصل والمجتمع مجموعة أفراد لا غير؟ هل الفرد حقيقة واقعة ينبغي أن تدرك بذاتها، أم أن المجمع هو الحقيقة، كل قائم بذاته، وأن الفرد ليس إلا جزءا من هذا الكل؟ وأن هذا الجزء لا يفهم له وجود إلا في الكل؟ لكل وجهة نظر، ناصر ومؤيد.

يولي توينبي المسألة عناية خاصة، فيتحدث عن المجتمع قائلا: [1] إنه نظام العلاقات بين الكائنات البشرية، ولا تقتصر تلك الكائنات على مجرد كونها أفرادا، فإنها كذلك حيوانات اجتماعية بمعنى أنها تعجز عن البقاء على الإطلاق إن افتقرت إلى وجود هذه العلاقة بين بعضها بعضا ... وبالتالي فإن المجتمع هو حصيلة العلاقات بين الأفراد، وتبرز هذه العلاقات من بين ثنايا تطابق أفعالهم الشخصية، ويوجد هذا التطابق في الميادين الشخصية، في نطاق أرضية مشتركة، وهذه الأرضية المشتركة هي ما ندعوه بالمجتمع.

إن ارتضينا هذا التعريف انبثقت عنه نتيجة هام، تمتاز بالوضوح: إن المجتمع هو ميدان الفعل، أن مصدر الفعل بأسره، مرجعه الأفراد، الذين يتكون منهم المجتمع ... . [ ص: 75 ]

والسؤال المهم: ما طبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع؟

يعتقد الكثير أنها علاقة صراع، يريد الفرد أن يوسع في دائرة حريته، فلا يسمح له المجتمع بذلك، فيشعر أن مجتمعه يضغط عليه، ويحول أحيانا دون تحقيق طموحاته، فيسعى لتحطيم القيود التي تفرض عليه.. وقد يحصل أن يعتدي على الفرد، وتصادر بعض حقوقه باسم المجتمع، عندها يكره الفرد مجتمعه، ويعمل ضده.

خارج هذه الدائرة (الصراعية ) تكون العلاقة أفضل وأسلم، فلا يستغني الفرد عن مجتمعه، ولا المجتمع عن الفرد.

والإنسان يحمل في نفسه نزعتين: فردية وجماعية، وهو محب لفرديته، يريد أن يستقل، ليحقق لنفسه أمورا كثيرة، وفي ذات الوقت هو محب لبني جنسه، يتطلع للعيش معهم بسلام، والاجتماع بهم.. وهو متذبذب بين النزعتين لا يستقر على واحدة، لكن يوجد أفراد تغلب فرديتهم على جماعيتهم وبالعكس.

والإسلام يمنح الفرد حقوقا واضحة، ويوجب عليه واجبات تجاه مجتمعه، فالمسؤولية فردية ولا يؤاخذ إنسان بجرم ارتكبه أبوه أو أخوه مثلا ، وليس من حق أحد أن يعتدي على إنسان، أو يتجسس على خصوصياته.. كما منح الإسلام حرية التملك، ومنع الاعتداء على الأموال، فهي مصونة، وشرط على الفرد أن [ ص: 76 ] لا يضر بمجتمعه، إذ لا ضرر ولا ضرار ، والضرر يزال .. وقد شجع الإسلام على الأخوة ومحبة الآخرين، فـ "خير الناس أنفعهم للناس " [2] وقد أمن الإسلام للفرد حريته الدينية والمدنية والسياسية، وفي المقابل ألزمه بواجبات، فجعل الكل مسئولا عمن استرعاه، ممن هم تحت يده.. ويصور الله تعالى العلاقة الاجتماعية،

فيقول: ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله ) ( التوبة: 71) .

فالعلاقة حميمة، والأمر بالمعروف سلطة منحها الله للمجتمع، ليراقب الفرد، فيمنع اعوجاجه.. والصلاة رابطة اجتماعية، والزكاة كفالة مالية، والكل يتحرك ضمن طاعة الله وطاعة رسوله، فنظامهم واحد، وتوجههم واحد، وتكافلهم واحد،ـ وعبادتهم واحدة.

إن الإسلام يولي عنايته للفرد والمجتمع على حد سواء، فهو يتحدث عن الأنبياء مثلا، ثم يعقبه بما فعلت الشعوب والأمم.. [ ص: 77 ] إنه يذكر الأفراد الجيدين من الأنبياء والصديقين والشهداء، كما يذكر السيئين.. كما يذكر الشعوب وماذا فعلت، لكنه يختلف عن التوراة مثلا، فلا يذكر القرآن الوقائع التاريخية بتفاصيلها إلا نادرا، كما لا يذكر أبناء الأنبياء إلا إذا كان لذكرهم مبرر.

أما التوراة فتذكر كل شيء، فهي سرد للتاريخ، تذكر الأنبياء ونساءهم وأولادهم، وعمر كل، فتقع بسبب ذلك بأخطاء قاتلة، فقد نجد في أخبار المعارك أن جيشا قوامه 600 ألف مقاتل، قاتل جيشا قوامه 400 ألف، ولأن هذا مستحيل تصوره قديما، فقد وجدنا الأرقام صارت (6) آلاف ضد (4) آلاف.. وفي ذكر تاريخ الميلاد، قد وجدنا الابن مولودا قبل أبيه، وخلاف: هل (س) زوجة النبي أم أمه؟ كما نجد أن نبيا مثل موسى عليه السلام له أولاد، رواية تذكر أنهم ثلاثة وثانية تجعلهم سبعة، وهكذا.

إن منحى التوراة تاريخي، بينما اتجاه القرآن نحو تفسير التاريخ، وأخذ العبرة، لذا لا نجد في القرآن التفصيلات التي نجدها في التوراة.

في القرآن التركيز الأول نحو نقل الحوار بين الأنبياء وشعوبهم، وماذا حدث حين آمنوا أو لم يؤمنوا.. التوراة تركز على التفاصيل، فتذكر عدد المقاتلين في المعارك، وعدد القتلى، وعدد الغنائم، وإن [ ص: 78 ] ذكرت بعض الحوارات قدمت لها بتفاصيل لا يهتم بها أحد اليوم [3] إن التاريخ صناعة مشتركة بين البطل والأمة، النبي وأنصاره، ولم يبخل القرآن عن ذكر البعض، ولو كان كافرا، قال الله تعالى: ( إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين ) (القصص: 8) ، ( واستكبر هو وجنوده في الأرض بغير الحق وظنوا أنهم إلينا لا يرجعون ) (القصص: 39) ، ( هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم ) (الأنفال: 62، 63) .

وإذا كان المبدع هو حادي الأمة، فإن الجمهور هو الصانع الفاعل، قائد الجيش يخطط، وجنوده تنفذ، والنصر ليس من فعل وتخطيط القائد فقط، ولا من عمل الجنود فقط، ولكن النصر يتأتى من الخطة الجيدة، والتنفيذ الحسن، فالجنود بحاجة لقيادة جيدة، والقائد بحاجة لجند مطيع وشجاع.. وفي هذا الصدد كتب د. عماد الدين خليل : ... وبينما تنحرف المفاهيم الوضعية باتجاه الفردية، حتى تصل بالفرد إلى مرتبة الألوهية، تاركة الجماهير تحت رحمة [ ص: 79 ] الطغيان الفردي هذا، أو باتجاه الجماعية حيث تصل بالطبقة إلى مرحلة الألوهية، تاركة الفرد كوحدة ذاتية متميزة مستقلة، تحت رحمة الطغيان الجماعي، نجد الإسلام يحفظ التوازن ويحميه، عبر سلسلة طويلة من التوجيهات والتشريعات والآداب والممارسات الأخلاقية، التي لا مجال لذكرها هنا ...

أما القرآن فإنه يتجاوز هذا كله، لكي يعطي الدور لطرفي المسألة، ويعلق المسئولية الكاملة في صياغة الواقع على الفرد وعلى الجماعة: ( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ) (البقرة: 134) .

فلا ينفرد الفرد بصناعة التاريخ، ولا يستقل بذلك المجتمع، بل هو نتاج هذا وذاك [4] وأختم البحث بكلمة ( لآلبان ) ، حيث يقول [5] : ... ورعاية الإسلام للفرد واهتمامه به بالقدر الوافي، شيء واضح تماما، وهو يصر أيضا على الاهتمام بالجماعة بوصفها ذاك.

والله تعالى يصدر حكمه على الأمم، ويشير القرآن في مواضع كثيرة إلى القرى التي ازدهرت أو أهلكت، بما قدمت يداها من طاعة أو عصيان، للسنن الخلقية . [ ص: 80 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية