الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- استخلاف الإنسان

قال عز وجل : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ) (البقرة: 30 - 33) .

يستوقفني في الآيات الكريمة جملة أمور، منها:

أ- نسبت الملائكة لآدم عليه السلام تهمة عامة هي الإفساد، وفسرتها بسفك الدماء.

ب- إن آدم عليه السلام لم يسبق له سفك دم أحد.

جـ- إن الله تعالى لم ينف التهمة عن آدم وذريته، بل ألمح إلى قدرات أخرى معينة، هي العلم والاستذكار.

د- طرح الله تعالى "الأسماء " دون تحديد، فهل كانت مسميات الأشياء أم اللغات؟ [ ص: 46 ]

هـ- من أين جاءت الملائكة بتهمة "الفساد " ؟ هل ذلك لكونها استقرأت حال آدم كمخلوق مختار، فقدرت أنه من كان هذا حاله فإنه يمكن أن يسفك الدماء؟

و- لقد دلل الله تعالى على ما يتمتع به آدم من العلم والاستذكار، بطرح أسماء فاستطاع آدم استذكار تلك الأسماء.

ز- نمط العرض يوحي بأن الاستخلاف يرتبط بما وهبه الله لآدم من القدرات على التعلم والحفظ.

ح- إذن فالاستخلاف يرتبط بهذه القدرات، فمن تعلم ووظف قدراته فقد استحق الاستخلاف، ومن لا يتعلم يخسر ذلك.

بعد هذه الملاحظات أنتقل إلى فارس هذا الميدان "سيد قطب " [1] ، يرحمه الله، فهو يرى أن الله تعالى يريد أن يسلم للمخلوق الجديد آدم عليه السلام ، زمام هذه الأرض، وإطلاق يده فيها، يبدع فيها عن طريق التكوين والتحليل، والتركيب والتحوير والتبديل، وكشف طاقات وكنوز هذه الأرض، وتسخير كل ذلك في المهمة الملقاة على آدم وذريته.

إن هذا المخلوق، قد وهب طاقات واستعدادات توازي وتعادل [ ص: 47 ] ما في هذه الأرض من طاقات وكنوز وخامات.. إن منزلة الإنسان في الوجود منزلة عظيمة.. والسؤال: من أين علم الملائكة بأن آدم سيفسد في الأرض ويسفك الدماء، ولم يفعل شيئا بعد؟

ويجيب سيد قطب : ربما كان لديهم من شواهد الحال، أو من تجارب سابقة في الأرض، أو من الإلهام، ما كشفوا عن شيء من فطرة آدم وذريته، ثم هم بفطرتهم البريئة، التي لا تعرف إلا الخير المطلق، والسلام الشامل، يرون أن التسبيح والتقديس لله تعالى هو الغاية الكلية للوجود، وعلة الخلق، وهذا متحقق بوجودهم، لا بوجود آدم وذريته.

لقد خفيت عليهم الحكمة العليا في عمارة الأرض، وتنمية الحياة وتنويعها، وتطويرها وترقيتها، وكل ذلك يكون على يد من يستخلفه الله تعالى في أرضه، فهو المرشح لذلك، وإن كان يفسد أحيانا، ويسفك الدماء أحيانا، فإن خلف هذا الفساد والشر خير كثير أكمل وأشمل، حيث النمو الدائم والرقي المستمر، حث الحركة التي تهدم لتبني، والتطلع الذي لا يقف، ومحاولة التغيير.. وقد جاء الرد ليس بنفي الفساد بل بالقول: ( إني أعلم ما لا تعلمون ) ( البقرة: 30) . [ ص: 48 ]

وبعد عرض أسماء الأشياء ، وأعاد آدم عليه السلام المعلومة فنجح بالاختبار، ويعلق سيد قطب على ذلك قائلا [2] : "ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي العظيم، الذي أودعه الله هذا الكائن البشري، وهو يسلمه مقاليد الخلافة، سر القدرة على الرمز بالأسماء للحسيات، سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها، وهي ألفاظ منطوقة، رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة، هي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض، ( وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا ) ( البقرة: 34) ..

إنه التكريم في أعلى صوره، لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض، ويسفك الدماء، ولكنه وهبه من الأسرار ما يرفعه على الملائكة.. لقد وهب سر المعرفة، وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق.. إن ازدواج طبيعته وقدرته على تحكيم إرادته، في شق طريقه، واضطلاعه بأمانة الهداية إلى الله، بمحاولته الخاصة، إن هذا كله بعض أسرار تكريمه ... " إن الإنسان -وإن كان يفسد ويسفك الدماء- إلا أنه يمتاز بقدرات فائقة على "التعلم والتعليم".. وهذه القدرات على [ ص: 49 ] اكتساب المعارف وتنميتها واستثمارها، هي من مرشحات الخلافة في الأرض، لأنه خير من يعمرها ويقيم الحضارة فيها، أما الملائكة فتجيد التسبيح لله تعالى، تحسن وتجيد العبادة، تطيع ولا تعصي، لكن متطلبات التحضر والعمران هي العلم المتطور المتجدد دائما، وهذا ما يحسنه الإنسان، ولا تحسنه الملائكة، ومن هنا وقع الاختيار على الإنسان دون الملائكة.

وكل من لا يكسب علما، على مستوى الفرد والأمة، فقد أخل بشروط الاستخلاف الأساسية، والله تعالى لا يحابي أمة، ولا يعطيها إلا ما تستحق، فليس للإنسان إلا سعيه وكده.

وأخلص إلى أن الإنسان صاحب مواهب وقدرات، فإذا وضع في شروط مناسبة، ومكان مناسب، وعومل معاملة كريمة، بعيدا عن التأليه أو التحقير، فإنه يعمر ويتقدم، يقيم حضارة ويرعاها.

أما إذا أهين واحتقر، وحوصر وخوف، فقد معنى الحياة، وماتت قدراته، وانتهت إبداعاته، وربما تحول إلى أداة هدم وتخريب، يشعل الحروب ويتاجر بالأسلحة الفتاكة والمخدرات، ووسيلة دمار.

وعتاة المستعمرين - قديما وحديثا - ورجال المافيا من كل لون، وفراعنة السلطة، ودهاقين الرشوة والفساد، كل أولئك وأمثالهم أدلة [ ص: 50 ] حية على ما يمكن أن يصل إليه الإنسان الشرير الأناني، الفاسد المفسد، ولو كان على رأس القيادة في العالم.

إن من يبحث عن دليل فدونه قول الله سبحانه: ( أفنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون ) ( القلم: 35-36) .

التالي السابق


الخدمات العلمية