الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- المعرفة بالدين

منطلق المسلم دينه، فمعرفته جيدة سليمة، تسهل الانطلاق.. والإسلام دين سهل، يخلو من التعقيد، ولذا كان الصحابي يدركه بيسر وسهولة، كما يدرك أهدافه وأبعاده.

لقد أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه لليمن لجمع الزكاة، فطلب إلى أهل اليمن أن يعطوه قماشا بدلا من الزكاة العينية، وعلل ذلك بقوله [1] : " " إنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين بالمدينة " ".. وحين فتحت العراق على عهد الخليفة الراشد عمر رضي الله عنه ، رفض توزيع الأرض على المجاهدين، وبقي ستة أشهر يناقش كبار الصحابة، وكانت حجته أنه يريدها موردا لبيت المال أولا، وكي لا يتحول المجاهدون إلى مزارعين، ويتركوا الجهاد.

" وروي أن على بن أبي طالب رضي الله عنه سئل عن قوله صلى الله عليه وسلم : ( غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود ) فقال: إنما قال عليه الصلاة والسلام ذلك والدين قل - أي المسلمون قلة - فأما الآن وقد اتسع [ ص: 88 ] نطاقه وضرب بجرانه، فأمرؤ وما اختار " [2] .. والشواهد كثيرة.

إن الإسلام نصوص من كتاب الله وسنة رسوله، والأخذ منها مباشرة سهل ميسور، متى علم الإنسان العربية، مفردات ودلالات وعلم أسباب النزول وكليات الشريعة.

إذن ليس المقصود بالعلم بالدين، العلم المتخصص، فذلك من نصيب نخبة من علماء الشريعة، ولكن المقصود قدر مشترك من المعرفة الصحيحة، تشتمل على أصول العقيدة، ومتطلبات العبادة الصحيحة، والأخلاق الإسلامية، بعيدا عن التأويلات الباطنية، والتي ترفضها اللغة.

وأيضا فليس المطلوب علما نظريا، لا يكون له في السلوك نصيب، فيكون التنظير بواد والعمل والفعل بواد آخر، واستذكر هنا أن اليابان حين عزمت على النهوض، توجهت إلى الصناعة وعلومها، ولم تتوجه للدراسات النظرية، وما زال هذا التوجه حتى اليوم، وكافة البعثات التي أرسلتها إلى الغرب، لم تجعل من أهدافها دراسة الفلسفة أو علم الاجتماع أو القانون، على حين كان العربي المبتعث يغلب على دراسته العلوم النظرية والآداب والقانون، ولم يعدل التوجه إلا خيرا. [ ص: 89 ]

وحين انشغل المسلمون بالفلسفة وعلم الكلام، واشتغل الفقهاء بالفقه الافتراضي، صار العلم يعالج قضايا لا وجود لها في المجتمع على حساب قضايا موجودة، لا تجد من يعالجها.. والذين هاجموا علم الكلام، من علماء الأمة، كانوا يرون فيه (ترفا فكريا) يخترع المتكلم مشكلة، أو يطرح إشكالا، ثم يحاول حله، وقد يفلح أو لا يفلح.. من هنا رأينا عالما مثلالشاطبي ، كان همه الأول التعرف والتعريف بمقاصد الشريعة، يقول [3] : كل مسألة لا ينبني عليها عمل، فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعا .

والعلم حين يشيع في الأمة، يتنافس في الحصول عليه الكل، وبهذا نفسر انتشار المدارس والكتب في العالم الإسلامي، حتى قال " ديورنت " في كتابه الرائع "قصة الحضارة": إن مكتبة الصاحب ابن عباد الشخصية، كانت تحوي من الكتب أكثر مما تحويه كافة المكتبات العامة في أوروبا كلها.

كذلك فإن الإسلام انتشر في شرق إفريقيا وجنوب شرق آسيا عن طريق التجار، الذين لفتوا الانتباه بجودة سلوكهم، فكانوا دعاة [ ص: 90 ] للإسلام بالفعل لا بالقول، واليوم يسجل الطلبة المبتعثون، والدارسون في الغرب، نجاحا في الدعوة رغم قلة العلم، ولكن حسن السلوك هو "الجاذب" الأكبر.

من السهل أن يكون الإنسان "منظر"، ولكن الأنفع أن تكون حياته وسلوكه صورة لما يؤمن به، ويدعو له.

إن الإسلام يواجه اليوم أكبر حملة إعلامية ظالمة ضده، ومع ذلك فهو يسجل الانتصار بعد الانتصار، وإذا كان البعض يكسب بعض الفقراء لتقديمه المال والطعام، فالإسلام يكسب من رجال الفكر والعلم.. والغريب أن أكبر حملة ضده في الغرب تتركز حول المرأة، ثم نجد الإسلام ينتصر وينتصر في صفوف النساء.. إنه دين يشق الطريق بقوته وليس بفضل الأموال التي تنفق، ولا الكنائس الفخمة التي تشاد، ثم لا تجد من يزورها.. وقد صدق من قال: النصرانية دعوة بلا دين، والإسلام دين بلا دعوة.

إن العالم الإسلامي يشهد صحوة لم يعرفها منذ زمن بعيد، ومعرفة المسلم بدينه تزداد يوميا، والالتزام به يكبر يوميا، رضي الأعداء أم سخطوا، اتهموا المسلمين بالإرهاب أم لم يتهموا، فقد وعد الله تعالى بنصر دينه حيث قال:

( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) (فصلت: 53) . [ ص: 91 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية