الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
1- الإيمان بالله تقدم

الدين عقيدة ينبثق عنها سلوك وتصور معرفي، وقد يكون ثمة تشريع أو لا يكون.. وبهذا المعنى، فكل عقيدة هي دين، فالشيوعي دينه الشيوعية، والعلماني دينه العلمانية، والوجودي دينه الوجودية، وهكذا ... وهناك اليوم ملايين من المسلمين والنصارى مثلا، لا يعرف من الدين سوى أنهم مسلم أو نصراني، لأنه ولد كذلك، لكنه لم يدخل مسجدا أو كنيسة، ولا صلى ولا صام، ولا كف عن المحرمات، ولا فعل شيئا من الواجبات.

ويوجد إلى جانبه التزام صارم بالماركسية أو العلمانية، حتى ليمتنع عن قراءة كتاب، لأنه مخالف لعقيدته.. وأستذكر هنا مقولة "سارتر": بأن كل من يعادي الشيوعية فهو كلب، وأنه يعلن تمسكه بها. وأيام الثورة الثقافية في الصين ، حفلت الصين بكل أنواع التعدي والإرهاب لكل من لا يؤمن بالشيوعية الماوية.

إن الأديان عموما والسماوية على وجه الخصوص لا تعترف بعبودية إلا الله تعالى، ومن ثم فهي تحرر الإنسان من عبودية الزعيم الأوحد، أو الحزب الطليعي الأوحد، وحتى الشهوات ...

وحين طلب الإمبراطور الفارسي من المسلمين أن يقابله أحد، جاء ربعي بن عامر رضي الله عنه ، فلما سأله: ما الذي أخرجكم من [ ص: 106 ] بلادكم؟ " قال ربعي : جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام. "

ومن هنا وجدنا كافة الفراعنة قديما وحديثا تحارب الدين، لأنه يمنع البشر أن يكونوا عبيدا لأحد سوى الخالق.

وكافة الفضائل يأمر بها الدين، فهو يأمر بالعدل، وينهى عن الظلم، ويمنع كل أنواع العدوان، ويأمر بكل خير، وينهى عن كل شر، يحترم الإنسان ويعتبره المستخلف في الأرض، ويكرمه بكل صور التكريم، حتى ليمنع كل ما يؤذيه من همز أو لمز أو لقب قبيح يكرهه.. يحافظ على حقوقه، ويمنع عن الاعتداء عليها، في نفسه ومشاعره، وأمواله وأولاده وعرضه، وكل محبوب لديه.

الدين بشكل عام عدو للعنصرية، عدو للمستبدين المتفرعنين، عدو للظالمين، عدو للفاسدين المفسدين.. الحضارة تحتاج إلى دين يضبط حركة أهلها، ويكون هاديا وموجها لها، حتى ليقول الفيلسوف " برناردشو " [1] إنه يعرف جيدا أن الحضارة بحاجة إلى دين، وأن حياتها أو موتها يتوقفان على ذلك.

أما الناقد البريطاني " كولن ولسن " فيقول [2] : ...الإنسان [ ص: 107 ] ليس كاملا بدون دين، فإذا أرادت الحياة أن تتقدم خطوات أخرى أسمى من القرد، أو من الإنسان العادي، وحتى من الفنان، فلن يكون ذلك إلا عن طريق قوة الفهم، وهذا الشوق لتركيز أعظم من الخيال، يتمثل في الشهية الدينية ... إن الدين مقياس البطولة ورمز حاجة الإنسان في الكفاح ... وفشل الدين والحروب العالمية، أمران متلازمان حتما .

جاء في كتاب القبائل: [3] "لقد سيطرت النظرية المتطلعة إلى بشرية متحررة من الضوابط الدينية والقبلية، وعالم بلا قبائل عالمية، على خيال مفكرين من ماركس إلى أوغست كومتي، إلى إتش جي ويلز، وحسب مفهوم "العلمنة" الذي رافق تطوير العلوم الاجتماعية في القرن العشرين، فإن عملية التصنيع والتحديث ستتغلب في النهاية على الدين وعلى الهوية العرقية في الدول المتقدمة. وقد أصر عالم الاجتماع المعاصر " دانيال بل " على ان الانهيار المتواصل للهوية العربية والدينية مسألة حتمية".

والسؤال: هل صدقت النبوءات؟

وختاما، إن الإيمان بالله تعالى وحده لا شريك له، ليحرر الإنسان من عبادة الزعماء أو الأحزاب، أو الشهوات والغرائز، أو السقوط في [ ص: 108 ] العنصرية واحتقار الآخرين، أو التطهير العرقي، أو سلب ونهب الشعوب وخيراتها، او إشعال الحروب واستعباد الأمم.

تبقى قضية مهمة، إن الدين نصوص يفهمها الإنسان، وإن الإيمان بالله عقيدة معرفية، فالإنسان قد يفهم النص فهما غير سليم، وقد يفسره ويسوقه لهدف لم يوضع له، وإن الإيمان بالله تعالى قد يبرد، فيصبح مجرد معرفة لا علاقة لها بالسلوك، ومن ثم فاللوم ينبغي أن يوجه للإنسان، وليس للدين والإيمان.

وكم من نصوص يلوكها الإنسان بلسانه، ويخرج عليها بسلوكه.. كم من نصراني يقرأ في الأناجيل: "من يلطمك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر".. ثم هو يمارس اللطم ليل نهار، ويشعل الحروب، وهو يتحدث عن "المحبة ودين المحبة".

وكم من مسلم يتحدث ليل نهار عن التوحيد الخالص، وهو يعتقد أن "البشر" هو الضار النافع فينافق له، وكم من مسلم يتحدث عن "الأخوة" وهو يترفع على كل الخلق، مسلمهم وكافرهم، ويحتقرهم، ويعاملهم أسوأ معاملة.

العيب لي في الدين ولا في الإيمان بالله، ولكن العيب في الإنسان، الذي لا رابط بين عقيدته وسلوكه. وهذا الأمر ليس خاصا بأهل الدين، فالكل اليوم سواء، يستوي في ذلك المؤمن والكافر. [ ص: 109 ]

ولنقرأ هذه الشهادة للدكتور برهان غليون : [4] إن بين الرافعين لشعارات القومية، عتاة الانفصالية والقطرية، وبين المتحدثين بالعلمانية حماة العشائرية والطائفية!

فالانفصال بين القول والعمل، بين المعتقد والسلوك، بات اليوم ظاهرة عامة كبيرة، بل طامة كبرى!

إن الإنسان وهو يجاهد في الحياة ويصارع، بحاجة إلى قوة كبيرة تمده بالعون، وتقول له: بأن تضحياته محفوظة ولن تضيع، ومقدرة ولن تبخس، وكل ذلك يجده عند الإيمان بالله ربا.. فالإيمان بالله كان وما يزال يمثل قمة التقدم، بشرط أن يكون حارا لا باردا كليالي الشتاء:

( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ) (العنكبوت: 69) ..

هذا تعهد عظيم من الخالق بهداية المجاهدين، وهو مع المتقين يسدد خطاهم، ويقمع عدوه وعدوهم، وفي الآخرة يرفعهم إلى مصاف النبيين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا.

إن وصف الأديان بأنها رجعية جاء من قبل سدنة المادة، وعبيد الدنيا، وتجار بضاعة الشمولية الفاسدة، وتعس عبد الدينار وتعس عبد الدرهم، وتعس وخاب عبيد الدنيا والشهوات. [ ص: 110 ]

يقول سيد قطب [5] : الإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله، التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب، التصديق المطمئن الثابت المستيقن، الذي لا يتزعزع، ولا يضطرب، ولا تهمس فيه الهواجس، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور، والذي ينبثق عنه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله، فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه، لا بد مندفع لتحقيق حقيقته خارج القلب، في واقع الحياة في دنيا الناس، وهو يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه، من حقيقة الإيمان وما يحيط به في ظاهرة من مجريات الأمور وواقع الحياة ... .

التالي السابق


الخدمات العلمية