الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
4- الالتزام الخلقي

أود ابتداء طرح عدة أسئلة منها: هل يوجد إنسان عديم الأخلاق؟ هل هناك شعب قديما أو حديثا ليس له نظام خلقي؟ هل توجد أمة لا تلتزم نظاما خلقيا؟ وأخيرا: هل توجد حضارة دون أي نظام خلقي؟ وما هي الأخلاق لغة واصطلاحا؟ [ ص: 120 ]

الأخلاق لغة: الخلق: العادة والسجية والطبع والمروءة والدين [1]

واصطلاحا: ملكة تصدر بها عن النفس الأفعال بسهولة ويسر، من غير تقدم فكر وروية وتكلف [2] .. ويعرفه الفيروزأبادي [3] بأنه: بذل الجميل وكف القبيح، أو التخلي عن الرذائل والتحلي بالفضائل.. وعد له أربعة أركان: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل.

وهنا الحديث عن السلوك، ويطلق عليه بعض العلماء "علم السلوك".. أما الأخلاق كعلم، فيعرف بأنه: [4] "علم يبحث في الأحكام العملية التي تعرف بها الفضائل لتقتنى، والرذائل لتجتنب، بهدف تزكية النفس".

وقد تحدث المصلح الديني " مارتن لوثر " عن أثر الأخلاق في الأمم فقال [5] : ما سعادة الأمم بكثرة أموالها ولا بقوة استحكاماتها، ولا بجمال مبانيها، وإنما سعادتها بأبنائها الذين تثقفت عقولهم، وبرجالها الذين حسنت تربيتهم واستنارت بصائرهم، واستقامت أخلاقهم، في هؤلاء سعادتها الحقة، وهم قوتها وعظمتها الجوهرية . [ ص: 121 ]

ماهية الأخلاق ومركزها

هل الأخلاق هي مكارم القيم، وأصول السلوك الحسن، والبعد عن السلوك السيىء؟ أم الأخلاق هي مجموع القيم، والمبادىء الموجهة للسلوك، والمساعدة على تكوين اختيارات عامة، تؤدي إلى تكوين صورة عن المدنية؟

يفضل د. برهان غليون الطرح الثاني [6] ، لأنه يضم كافة الخصال التي تشجع على احترامها حضارة ما، أو تستند إليها في إلهام الناس وحثهم على الممارسة.

أما مركز الأخلاق فيظهر من سلوك البشر، وتضارب المصالح، وتناقضها أحيانا، مما لا يستطيع الفرد أو الأفراد تحقيقها معا، هنا يقوم الإنسان بتنظيم سلوكه ليتوجه نحو الأهداف والغايات.

ومهمة الأخلاق تبني هذه الغايات أولا، ثم تحديد القيم التي تساعد الفرد على القيام من نفسه بالاختيار بين المصالح والرغبات.

والنظام الأخلاقي من مهماته الأساسية تحديد الغايات الكبرى أولا، والوسائل الموصلة لذلك.

ولولا ذلك لضاع الفرد، لأنه لا مقياس لديه، فيخضع للواقع، مهما كان، وقد يتخلى عن إرادته الشخصية، فيصير مجرد آلة بيد من هو أقوى منه، بل قد يفقد حريته كليا أو جزئيا بسبب ذلك. [ ص: 122 ]

وهنا تبرز قاعدة معروفة: إن القيم الكبرى لا يضحي بها من أجل قيم أقل، وكذا يعتبر دفع المفسدة مقدما على جلب المصلحة، والمصلحة العامة تقدم على المصلحة الخاصة.

وهذا التحديد تقوم به الثقافة، فهي الحاكم.. فمتى كانت حية قوية فاعلة، سلم لا الكل، فإذا ضعف نظام القيم والأخلاق، وذبلت الثقافة، يصير قاعدة السلوك هو "تحقيق الرغبات الشخصية"، دون اعتبار للجماعة وسلامتها، بل دون مراعاة للمستقبل.

إن كل مجتمع مدني سليم يتطلع عادة للانخراط في مشروع جماعي، ويتطلب عادة نوعا من التضحية ونكران الذات، وهنا نستذكر مقولة "مالك بن نبي": إن قوس الحضارة يبدأ روحيا قويا، يعمل الأفراد بقوة وتضحية، يعقب ذلك مرحلة تتسم بالنشاط العقل، تفلسف الأولى، وفي المرحلة الثالثة، تهيج الغرائز، فتنحل الحضارة وتسقط، لأن "الأنا" تكون هي الصوت العالي، بل الأعلى.

إن النظام الخلقي يقوم على وسيلة ضبط لسلوك الفرد داخليا، كما يكون الخضوع للقيم إراديا دون إكراه، وهكذا تساهم القيم الخلقية بقيام نوع من الاستقرار الاجتماعي، فإذا ضعف الالتزام الخلقي، بدأت القلاقل والمتاعب، وبدأ الشك بالقيم والثقافة المحلية كذلك.. عند ذلك يصبح تحقيق الذات وحيازة الاعتراف [ ص: 123 ] الاجتماعي متعارضين مع احترام القواعد الأخلاقية السائرة، وعندها يكون تأثير القيم والضبط الاجتماعي قد ضعفا كثيرا، ومن ثم لم يعد ضبط سلوك الأفراد هينا بل عسيرا.

وهذا ما نشكو منه، فالأخلاق والقيم الإسلامية، التي كانت تتوجه نحو الجنة والسعادة في الآخرة، لم تعد تصلح في نظر البعض، لتحقيق التقدم ومواكبة حضارة اليوم.. وهكذا شكل التحرر عندنا ثورة ضد القيم والنظام الأخلاقي، وضد

التقاليد، كل التقاليد، وجرى تصوير الماضي بكل ما فيه وكأنه العقبة الكبرى ضد التقدم، وبالمثل وحد هذا "البعض" بين المستقبل والعلم، واعتقد أن الماضي قيد بكل ما يحمل، وبذا وصم بالرجعية والظلامية، فصار التقدم والحرية ثورة ضد الأخلاق والقيم.

وقد كانت المحصلة هدما للقيم دون بناء جديد، ويذكرنا هذا بما حصل "للغراب" فقد أعجبته مشية الحمامة ورشاقتها، ولما رأى خفة حركة العصفور وقفزاته الجميلة، أراد تقليد الاثنين معا، فجاء بأقبح مشية.

إن الحداثة اصطدمت بالقيم والأخلاق، وأرادت اقتلاعها من جذورها فلم تفلح، ولم تسلم لنا القيم، ولا استطاعت زرع قيم جديدة، فكانت مشية الغراب، لا جديد جيد ولا قديم قائم. [ ص: 124 ]

الحداثة والعلم

إن الحداثة ادعت أنها تبني نشاطها ووجودها على العلم، وكل ما لا يعترف به العلم فلا وجنود له، وكل قضية يحلها العلم، فإن لم تحل فهي قضية "ميتافيزيقية" زائفة.. لقد صورت الحداثة وكأنها انعتاق من كل القيم والأخلاق، واستسلام للعلم ومعطياته.

واستشهد رجال الحداثة بالغرب، وحياة الإنسان هناك، فهو يحقق رغباته دون قيد، كما صورت الحرية الفردية وكأنها تعني - فيما تعنيه - سقوط الضوابط الاجتماعية. واندفع البعض للقول: بأن تقدم الغرب جاء ثمرة لتخليه عن القيم والنظم الخلقية، وهذا يشبه القول: بأن الغرب ألحد فتقدم، وما كان الإلحاد هو السبب، ولكن كانت هناك أسباب للتقدم، جرى الأخذ بها، وإلا لوجب أن يتقدم كل الملحدين في العالم، وأن يتأخر كل المتدينين.

التالي السابق


الخدمات العلمية