الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
السنة النبوية

السنة النبوية هـي الأصل الثاني للإسلام، وقد أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ رسالته إلى الناس في قوله تعالى: ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) (المائدة: 67)

ولكن الأمر لم يكن مجرد تبليغ آلي وإنما هـو تبليغ مصحوب بالتبيين، كما ورد في قوله تعالى:

( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ) (النحل : 44) . وفي قوله تعالى: ( وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه ) (النحل: 64) .

وقد فعل الرسول صلى الله عليه وسلم ما أمره الله به، فكانت سنته المتمثلة في أقواله وأفعاله وتقريراته للقرآن بمثابة (تفصيل مجمله، وبيان مشكله، وبسط مختصره) [1] . وبذلك يكون الارتباط بين القرآن والسنة ارتباطا لا يتصور [ ص: 99 ] أن ينفصم في يوم من الأيام، وقد نبه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال: ( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما؛ كتاب الله، وسنتي ) [2] . ومن أجل ذلك اهتم المسلمون اهتماما عظيما بالسنة بوصفها الأصل الثاني للإسلام. وقد كان هـذا الفهم يعد من الأمور البديهية لدى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ( فعندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل واليا إلى اليمن سأله: كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي. ) [3] .

وقد أراد المستشرقون بعد محاولاتهم الفاشلة للتشكيك في القرآن الكريم من جوانب مختلفة، وبعد أن أعياهم البحث ولم يكن لهذه المحاولات أي أثر إيجابي لدى المسلمين المتمسكين بقرآنهم وتبين أن هـذه المحاولات لم تكن إلا كما قال الشاعر العربي:


كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل

أراد المستشرقون أن يوجهوا محاولات التشكيك إلى ناحية أخرى؛ أي: إلى الأصل الثاني للإسلام وهو السنة، مع الاستمرار في محاولاتهم السابقة الفاشلة. وأول مستشرق قام بمحاولة واسعة شاملة للتشكيك في الحديث النبوي كان المستشرق اليهودي ( جولد تسيهر ) ، الذي يعده المستشرقون أعمق العارفين بالحديث النبوي.

ويقول عنه كاتب مادة: (الحديث) ، في دائرة المعارف الإسلامية: (إن العلم مدين دينا كبيرا لما كتبه ( جولد تسيهر ) في موضوع الحديث، وقد كان تأثير (جولد تسيهر) على مسار الدراسات الإسلامية الاستشراقية أعظم مما [ ص: 100 ] كان لأي معاصريه من المستشرقين، فقد حدد تحديدا حاسما اتجاه وتطور البحث في هـذه الدراسات) [4] .

ويلخص ( بفانموللر ) عمل (جولد تسيهر) في هـذا المجال فيقول: (لقد كان ( جولد تسيهر ) أعمق العارفين بعلم الحديث النبوي. وقد تناول في القسم الثاني من كتابه: (دراسات محمدية) موضوع تطور الحديث تناولا عميقا. وراح -بما له من علم عميق، واطلاع يفوق كل وصف- يبحث التطور الداخلي والخارجي من كل النواحي... وقد قادته المعايشة العميقة لمادة الحديث الهائلة إلى الشك في الحديث، ولم يعد يثق فيه مثلما كان ( دوزي ) لا يزال يفعل ذلك في كتابه: (مقال في تاريخ الإسلام) . وبالأحرى كان (جولد تسيهر) يعتبر القسم الأعظم من الحديث بمثابة نتيجة لتطور الإسلام الديني والتاريخي والاجتماعي في القرن الأول والثاني. فالحديث بالنسبة له لا يعد وثيقة لتاريخ الإسلام في عهده الأول؛ عهد طفولته، وإنما هـو أثر من آثار الجهود التي ظهرت في المجتمع الإسلامي في عصور المراحل الناضجة لتطور الإسلام. ويقدم ( جولد تسيهر ) مادة هـائلة من الشواهد لمسار التطور الذي قطعه الإسلام في تلك العصور التي فيها تشكيلة من بين القوى المتناقضة، والتباينات الهائلة حتى أصبح في صورته النسقية... ويصور (جولد تسيهر) التطور التدريجي للحديث ويبرهن [ ص: 101 ] بأمثلة كثيرة وقاطعة؛ كيف كان الحديث انعكاسا لروح العصر؟ وكيف عملت على ذلك الأجيال المختلفة؟ وكيف راحت كل الأحزاب والاتجاهات في الإسلام تبحث لنفسها من خلال ذلك عن إثبات لشرعيتها بالاستناد إلى مؤسس الإسلام، وأجرت على لسـانه الأقوال التي تعبر عن شعاراتها؟ [5] .

وهكذا تم اختراع كم هـائل من الأحاديث في العصر الأموي عندما اشتدت الخصومة بين الأمويين والعلماء الصالحين، ففي سبيل محاربة الطغيان والخروج عن الدين راح العلماء يخترعون الأحاديث التي تسعفهم في هـذا الصدد، وفي الوقت نفسه راحت الحكومة الأموية تعمل في الاتجاه المضاد، وتضع أو تدعو إلى وضع أحاديث تسند وجهات نظرها، وقد استطاعت أن تجند بعض العلماء الذين ساعدوها في هـذا المجال، ولكن الأمر لم يقف عند وضع أحاديث تخدم أغراضا سياسية، بل تعداه إلى النواحي الدينية في أمور العبادات، التي لا تتفق مع ما يراه أهل المدينة، وقد استمر هـذا الحال في وضع الأحاديث في القرن الثاني أيضا [6] .

هذا هـو ملخص المزاعم التي روجها ( جولد تسيهر ) ليهدم بها الأصل الثاني للإسلام؛ وهو السنة. ولسنا هـنا في معرض الرد التفصيلي على هـذه المزاعم، فقد تكفل بعض أفاضل العلماء بذلك، ومن أهم الكتب القيمة في هـذا المجال كتاب: (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي) : للدكتور السباعي. فمن أراد التفصيل فليرجع إليه.

ولكننا هـنا نود أن نشير إلى أننا لا ننكر أن هـناك الكثير من الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لا أصل لها، وأن ذلك لم يكن في يوم من الأيام خافيا على علماء المسلمين في مختلف العصور، ولكن الأمر الذي لا شك فيه [ ص: 102 ] أيضا أن علماء المسلمين الذين اهتموا بجمع الحديث النبوي لم يفرطوا إطلاقا في ضرورة التدقيق الذي لا حد له في رواية الحقائق، فقد وضع القرآن أمامهم أهم قاعدة من قواعد النقد التاريخي في قوله تعالى : ( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا ) ( الحجرات:6) .

وتتمثل هـذه القاعدة في أن أخلاق الراوي تعد عاملا هـاما في الحكم على روايته، وقد أفاد المسلمون إفادة عظيمة من هـذه القاعدة وطبقوها على رواة الأحاديث النبوية. وقد كان تطبيق هـذا المنهج النقدي على رواة الأحاديث هـو الذي تطورت عنه بالتدريج قواعد النقد التاريخي [7] .

ولعلماء الحديث باع طويل في نقد الرواة، وبيان حالهم من صدق أو كذب، فقد وصلوا في هـذا الباب إلى أبعد مدى، وأبلوا فيه بلاء حسنا، وتتبعوا الرواة ودرسوا حياتهم وتاريخهم وسيرتهم، وما خفي من أمرهم وما ظهر، ولم تأخذهم في الله لومة لائم، ولا منعهم عن تجريح الرواة والتشهير بهم ورع ولا حرج، قيل ليحيى بن سعيد القطان : أما تخشى أن يكون هـؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة ؟ فقال: لأن يكون خصمي أحب إلي من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول : لم لم تذب الكذب عن حديثي [8] .

ويروي الإمام مسلم في مقدمة صحيحه عن ابن سيرين قوله : (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم. فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم) . [ ص: 103 ]

" ويقول ابن عباس أيضا: إنا كنا مرة إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا، فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف. " ثم أخذ التابعون في المطالبة بالإسناد حين فشا الكذب. يقول أبو العالية : (كنا نسمع الحديث من الصحابة فلا نرضى حتى نركب إليهم فنسمعه منهم) .

ويقول ابن المبارك : (بيننا وبين القوم القوائم) ؛ يعني: الإسناد. [9] .

وقد وضع رجال الحديث القواعد الدقيقة التي ساروا عليها فيمن يؤخذ منه ومن لا يؤخذ، ومن يكتب عنه ومن لا يكتب. ويعلم ( جولد تسيهر ) وغيره من المستشرقين ذلك حق العلم، ويعلمون أيضا أن ما بذله المسلمون في توثيق الحديث لم يبذل أحد من أتباع النصرانية واليهودية عشر معشاره في سبيل توثيق العهدين القديم والجديد، ويعلمون أيضا أن إماما من أئمة الحديث مثل البخاري لم يأخذ في صحيحه بعد حذف المكرر إلا حوالي أربعة آلاف حديث فقط من مجموع حوالي نصف مليون حديث قام بجمعها وغربلتها حتى انتقى منها هـذه الآلاف القليلة؛ نتيجة للمناهج العلمية الدقيقة التي وضعها المحدثون، ولم يكن المسلمون في وقت من الأوقات في حاجة إلى من يعلمهم ذلك من أمثال (جولد تسيهر) ومن سار على نهجه.

أما دعوى أن الحديث أو القسم الأكبر منه كان نتيجة للتطور الديني والسياسي والاجتماعي للإسلام في القرنين الأولين، وما ذكره (جولد تسيهر) من حديث عن طفولة الإسلام ونضوجه... إلخ، فإن الواقع والتاريخ يكذب هـذه المزاعم، فإن الواقع والتاريخ يكذب هـذه المزاعم. [ ص: 104 ]

فقد انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بعد أن اكتمل الدين تماما بنص القرآن الكريم، حيث يقول: ( اليوم أكملت لكـم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) (المائدة: 3) .

وهذه الآية الكريمة تتضمن أيضا إكمال السنة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم مبلغ ومبين لما في الكتاب كما سبق أن أشرنا، فالحديث عن مرحلة نضوج للإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم حديث لا أساس له؛ لأن النضوج كان قد تم بالفعل قبل وفاته. أما إذا كان المراد بالنضوج هـو تطور الفكر الإسلامي أو الفقه الإسلامي فهذا أمر آخر مع الأخذ في الاعتبار أن تطور الفقه الإسلامي لم يخرج -في أثناء بحثه عن حلول لما جد في المجتمع الإسلامي من مشكلات لم يكن لها نظير من قبل- عن الخطوط العامة التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية.

أما أن الحديث كان انعكاسا للتطورات التي شهدها المجتمع الإسلامي في القرنين الأولين فيكذبه الحديث الشريف الذي سبق أن أوردناه: ( تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما؛ كتاب الله، وسنتي. )

قد كان من نتيجة ذلك جمع المسلمين على كلمة سواء في العقائد والعبادات والأخلاق وأحكام المعاملات في كل بقاع الأرض، فكيف يمكن حدوث ذلك إذا لم يكن الدين قد اكتمل، والقواعد قد ترسخت، والأخلاق قد تمكنت من النفوس، والعبادات قد استقرت أوضاعها؟ إن القول بأن الحديث أو القسم الأكبر منه كان نتيجة للتطور الذي حدث في المجتمع الإسلامي في القرن الأول والثاني يترتب عليه ألا تتحد عبادة المسلم في شمال إفريقيا مع عبادة المسلم في جنوب الصين، نظرا للاختلاف البعيد [ ص: 105 ] في البيئة في كل منهما، فكيف اتحدا في العبادة والتشريع والآداب وبينهما هـذا البعد وهذا الاختلاف؟ [10] .

أما اختلاف المذاهب وتعددها بعد القرن الأول فقد كان نتيجة لاختلاف أفهام المسلمين في فهم الكتاب والسنة، وهو اختلاف في الاجتهادات في الفروع لا في الأصول، وقد أباح الإسلام مثل هـذا الاختلاف في الفهم الناتج عن اجتهاد صادق، فإذا كان اجتهادا خاطئا فلصاحبه مع ذلك أجر واحد، وإن كان اجتهادا صائبا فلصاحبه أجران، ومن هـنا نجد المرونة التي تتلاءم مع كل عصر وكل مكان، وهكذا لم يصل المستشرقون إلى ما يريدون من زعزعة اعتقادات المسلمين وخلخلة تمسكهم بإيمانهم وسنة نبيهم.

وقد ردد بعض من المسلمين بعض الأفكار الاستشراقية [11] ، ولكنها لم تجد أيضا آذانا صاغية من المسلمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية