الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الاستشراق والاستعمار

لقد كان للمد الاستعماري في العالم الإسلامي دور كبير في تحديد طبيعة النظرة الأوروبية إلى الشرق، وخصوصا بعد منتصف القرن التاسع عشر، وقد أفاد الاستعمار من التراث الاستشراقي، ومن ناحية أخرى كان للسيطرة الغربية على الشرق دورها في تعزيز موقف الاستشراق، وتواكبت مرحلة التقدم الضخم في مؤسسات الاستشراق وفي مضمونه مع مرحلة التوسع الأوروبي في الشرق [1] .

وقد شهد القرن التاسع عشر استيلاء المستعمرين الغربيين على مناطق شاسعة من العالم الإسلامي؛ ففي عام 1857م تم استيلاء الإنجليز سياسيا على الهند ، وأصبحت الهند بذلك تابعة للتاج البريطاني رسميا، بعد أن كانت حتى ذلك الحين واقعة تحت نفوذ شركة الهند الشرقية منذ القرن السابع عشر. وفي عام 1857م أيضا تم استيلاء فرنسا على الجزائر كلها بعد أن كان الفرنسيون قد بدءوا [ ص: 43 ] غزوها عام 1830م. كما احتلت هـولندا قبل ذلك -في بداية القرن السابع عشر- جزر الهند الشرقية ( إندونيسيا ) عن طريق شركة الهند الهولندية. وبعد عام 1881م تم احتلال مصر وتونس . وظل الاستعمار يقوم بتقطيع أوصال البلاد الإسلامية شيئا فشيئا، ويضعها تحت سيادته، حتى استطاع في النهاية أن يطوق العالم الإسلامي من الشرق والغرب.

وبعد الحرب العالمية الأولى كان العالم الإسلامي كله تقريبا خاضعا لنفوذ الاستعمار الغربي [2] .

وقد استطاع الاستعمار أن يجند طائفة من المستشرقين لخدمة أغراضه وتحقيق أهدافه، وتمكين سلطانه في بلاد المسلمين. وهكذا نشأت هـناك رابطة رسمية وثيقة بين الاستشراق والاستعمار، وانساق في هـذا التيار عدد من المستشرقين، ارتضوا لأنفسهم أن يكون علمهم وسيلة لإذلال المسلمين وإضعاف شأن الإسلام وقيمه، وهذا عمل يشعر إزاءه المستشرقون المنصفون بالخجل والمرارة. وفي ذلك يقول المستشرق الألماني المعاصر (استفان فيلد Stephan Wild) : (والأقبح من ذلك أنه توجد جماعة يسمون أنفسهم: مستشرقين، سخروا معلوماتهم عن الإسلام وتاريخه في سبيل مكافحة الإسلام والمسلمين. وهذا واقع مؤلم لا بد أن يعترف به المستشرقون المخلصون لرسالتهم بكل صراحة) [3] .

ومن بين الأمثلة العديدة لارتباط الاسشراق بالاستعمار نذكر المستشرق ( كارل هـينر يش بيكر Karl Heinrich BecKer) [ت 1933م] مؤسس ( مجلة الإسلام ) الألمانية، الذي قام بدراسات تخدم الأهداف الاستعمارية الألمانية في [ ص: 44 ] إفريقيا. فقد حصل الرايخ الألماني في عام 1885 - 1886م على مستعمرات في إفريقيا تضم مناطق بعض سكانها من المسلمين، وظلت تلك المناطق تحت السيادة الألمانية حتى عام 1918م. وقد أدى ذلك إلى تأسيس معهد اللغات الشرقية في برلين عام 1887م، وهو معهد كانت مهمته تتلخص في الحصول على معلومات عن البلدان الشرقية الحالية وبلدان الشرق الأقصى، وعن شعوب هـذه البلدان وثقافتها [4] .

وفي هـذا يقول المستشرق الألماني ( أوليريش هـارمان Ulrich Harmann: (كانت الدرسات الألمانية حول العالم الإسلامي قبل عام 1919م أقل براءة وصفاء نية. فقد كان كرل هـينريش بيكر -وهو من كبار مستشرقينا- منغمسا في النشاطات السياسية، حتى إنه أصبح في عام 1914م شديد الحماس لمخطط استخدام الإسلام في إفريقيا والهند كدرع سياسية في وجه البريطانيين) [5] .

أما ( بار تولد Barthold) [ ت 1930 م ] مؤسس مجلة (عالم الإسلام) الروسيةMir Islama فقد تم تكليفه عن طريق الحكومة الروسية بالقيام ببحوث تخدم مصالح السيادة الروسية في آسيا الوسطى.

أما عالم الإسلاميات الهولندي الشهير ( سنوك هـورجرونيه ) [ت 1936م] فإنه في سبيل استعداده للعمل في خدمة الاستعمار توجه إلى مكة في عام 1885م بعد أن انتحل اسما إسلاميا هـو (عبد الغفار) ، وأقام هـناك ما يقـرب من نصف عام. وقد ساعده على ذلك أنه كان يجيد العربية كأحد أبنائها. وقد لعب هـذا المستشرق دورا هـاما في تشكيل السياسة الثقافية [ ص: 45 ] والاستعمارية في المناطق الهولندية في الهند الشرقية، وشغل مناصب قيادية في السلطة الاستعمارية الهولندية في إندونيسيا [6] .

وفي فرنسا كان هـناك عدد من المستشرقين يعملون مستشارين لوزارة المستعمرات الفرنسية في شئون شمال إفريقيا. وعلى سبيل المثال كان المستشرق الكبير ( دي ساسي ) اعتبارا من 1805م يشغل منصب المستشرق المقيم في وزارة الخارجية الفرنسية. وعندما غزا الفرنسيون الجزائر عام 1830م كان (دي ساسي) هـو الذي ترجم البيان الموجه للجزائرين، وكان يستشار بانتظام في جميع المسائل المتعلقة بالشرق من قبل وزير الخارجية، وفي حالات معينة من قبل وزير الحربية أيضا. وإلى عهد قريب كان ( ماسينيون ) مستشارا للإدارة الاستعمارية الفرنسية في الشئون الإسلامية [7] .

ويكشف المستشرق الفرنسي ( هـانوتو ) [ت 1944م] في مقال له بعنوان: (قد أصبحنا اليوم إزاء الإسلام والمسألة الإسلامية) ، يكشف بوضوح عن مقترحاته لتوجيه سياسة فرنسا في مستعمراتها الإفريقية الإسلامية، وما تهدف إليه هـذه المقترحات من إضعاف المسلمين في عقيدتهم حتى يسهل قيادهم [8] .

أما المصلحة البريطانية في العالم الإسلامي فقد كان الدافع إليها بطبيعة الحال هـو ممارسة السيادة البريطانية في الهند وغيرها من البلاد الإسلامية التي استولت عليها. وقد كان (اللورد كيرزن CuzoK ) في أوائل القرن الحالي من أشد المتحمسين في إنجلترا لفكرة إنشاء مدرسة للدراسات الشرقية، باعتبار أنها تعد (جزءا ضروريا من تأثيث الإمبراطورية) ، وتساعد على [ ص: 46 ] الاحتفاظ بالموقع الذي نالته بريطانيا في الشرق. وقد تحولت المدرسة المذكورة فيما بعد إلى مدرسة جامعة لندن للدراسات الشرقية والإفريقية.

وقد كانت الحكومة البريطانية -من أجل تحقيق أهدافها الاستعمارية- ترسم سياستها في مستعمراتها في الشرق بعد التنسيق والتشاور مع فريق من المستشرقين، الذين يقدمون لها الدراسات المطلوبة، يقول الدكتور إبراهيم اللبان رحمه الله:

(والوقع أن رجال السياسة في الغرب على صلة وثيقة بأساتذة هـذه الكليات (كليات اللغات الشرقية في أوروبا) ، وإلى آرائهم يرجعون قبل أن يتخذوا القرارات الهامة في الشئون السياسية الخاصة بالأمم العربية والإسلامية. وقد سمعت أحد كبار المستشرقين يتحدث أمامي فيذكر أن مستر (إيدن) كان قبل أن يضع قرارا سياسيا في شئون الشرق الأوسط يجمع المستشرقين المستعربين، ويستمع إلى آرائهم، ثم يقرر ما يقرر في ضوء ما يسمعه منهم، هـذا إلى أن بعضهم كان يؤسس صلات صداقة بالبارزين من رجال الأمة العربية، ويتخذ من هـذه الصلات ستارا يقوم من ورائه بأعمال التجسس في أثناء الحرب) [9] .

والاستعمار في حقيقة أمره هـو امتداد للحروب الصليبية التي كانت في ظاهرها حروبا دينية، وفي باطنها حروبا استعمارية. وقد كانت العودة إلى احتلال بلاد العرب وبلاد الإسلام حلما ظل يراود الغربيين منذ هـزيمة [ ص: 47 ] الصليبيين (فاتجهوا إلى دراسة هـذه البلاد في كل شئونها من عقيدة وعادات وأخلاق وثروات؛ ليتعرفوا على مواطن القوة فيها فيضعفوها، وإلى موطن الضعف فيغتنموه) [10] .

ولم تكن علاقة الاستشراق بالاستعمار -كما يظن- هـي مجرد إضفاء طابع التبرير العقلي على المبدأ الاستعماري، بل كان الأمر -كما يقوله إدوارد سعيد أيضا- أبعد من ذلك وأعمق، فالتبرير الاستشراقي للسيادة الاستعمارية قد تم قبل حدوث السيطرة الاستعمارية على الشرق، وليس بعد حدوثها؛ فقد كان التراث الاستشراقي بمثابة دليل للاستعمار في شعاب الشرق وأوديته؛ من أجل فرض السيطرة على الشرق وإخضاع شعوبه وإذلالها.

(فالمعرفة بالأجناس المحكومة أو الشرقيين هـي التي تجعل حكمهم سهلا ومجديا؛ فالمعرفة تمنح القوة، ومزيد من القوة يتطلب مزيدا من المعرفة) . فهناك باستمرار حركة جدلية بين المعلومات والسيطرة المتنامية [11] .

وهكذا اتجه الاستشراق المتعاون مع الاستعمار -بعد الاستيلاء العسكري والسياسي على بلاد المسلمين- إلى إضعاف المقاومة الروحية والمعنوية في نفوس المسلمين، وتشكيك المسلمين في معتقداتهم وتراثهم؛ حتى يتم للاستعمار في النهاية إخضاعا تاما للحضارة والثقافة الغربية.

التالي السابق


الخدمات العلمية