الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
البدايات الأولى

الاستشراق : هـو علم الشرق أو علم العالم الشرقي [1] .

وكلمة مستشرق بالمعنى العام تطلق على: كل عالم غربي يشتغل بدراسة الشرق كله؛ أقصاه ووسطه وأدناه، في لغاته وآدابه وحضارته وأديانه. ولكننا هـنا لا نقصد هـذا المفهوم الواسع، ولا يعنينا هـنا أن نتعرض لبحثه، كما لا يعنينا أيضا أن نتعرض للتغيرات الجغرافية والحضارية التي طرأت على مفهوم الشرق في مختلف العصور، وإنما كل ما يعنينا هـنا المعنى الخاص لمفهوم الاستشراق؛ الذي يعني الدراسات الغربية المتعلقة بالشرق الإسلامي في لغاته وآدابه وتاريخه وعقائده وتشريعاته وحضارته بوجه عام.

وهذا المعنى هـو الذي ينصرف إليه الذهن في عالمنا العربي الإسلامي عندما يطلق لفظ: استشراق، أو مستشرق، وهو الشائع أيضا في كتابات المستشرقين المعنيين.

ومن الصعب تحديد تاريخ معين لبداية الاستشراق، وإن كان بعض [ ص: 18 ] الباحثين يشير إلى أن الغرب النصراني يؤرخ لبدء وجود (الاستشراق الرسمي) بصدور قرار مجمع (فيينا) الكنسي في 1312م بإنشاء عدد من كراسي اللغة العربية في عدد من الجامعات الأوروبية [2] .

ولكن الإشارة هـنا إلى (الاستشراق الكنسي) تدل على أنه كان هـناك استشراق غير رسمي قبل هـذا التاريخ، فضلا عن أن هـناك باحثين أوروبيين -كما سنذكر فيما يلي- لا يعتمدون التاريخ المشار إليه بداية للاستشراق. ولذلك تتجه المحاولات في هـذا الصدد لا إلى تحديد سنة معينة لبداية الاستشراق وإنما إلى تحديد فترة زمنية معينة على وجه التقريب يمكن أن تعد بداية للاستشراق.

وليس هـناك شك في أن الانتشار السريع للإسلام في المشرق والمغرب قد لفت بقوة أنظار رجالات اللاهوت النصراني إلى هـذا الدين، ومن هـنا بدأ اهتمامهم بالإسلام ودراسته، ومن بين العلماء النصارى الذين أظهروا في وقت مبكر اهتماما بدراسة الإسلام -لا من أجل اعتناقه، وإنما من أجل حماية إخوانهم النصارى منه- كان العالم النصران يوحنا الدمشقي ( 676 - 749 م) . ومن بين مصنفاته في هـذا الصدد لإخوانه في الدين كتاب: (محاورة مع مسلم) ، وكتاب: (إرشادات النصارى في جدل المسلمين) [3] .

ولكننا لا نستطيع أن نعد مثل هـذه المحاولات بداية للاستشراق؛ فيوحنا الدمشقي كان رجلا شرقيا عاش في ظل الدولة الأموية وخدم في القصر الأموي، ولهذا سنصرف النظر عن مثل هـذه المحاولات من جانب النصارى الشرقيين، ونقصر حديثنا على العلماء الغربيين.

وهنا نجد أيضا أنه ليس هـناك اتفاق على فترة زمنية معينة لبداية الاستشراق. فبعض الباحثين يذهب إلى القول بأن البدايات الأولى [ ص: 19 ] للاستشراق ترجع إلى مطلع القرن الحادي عشر الميلادي، بينما يرى ( رودي بارت [4] Rudi Paret) أن بدايات الدراسات الإسلامية والعربية في أوروبا تعود إلى القرن الثاني عشر، الذي تمت فيه لأول مرة ترجمة معاني القرآن الكريم إلى اللغة اللاتينية، كما ظهر أيضا في القرن نفسه أول قاموس لاتيني عربي [5] .

وما ذهب إليه بارت في هـذا الصدد سبق أن عبرعنه كتاب المستشرق جوستاف دوجا ( تاريخ المستشرقين في أوروبا من القرن الثاني عشر حتى القرن التاسع عشر) . الذي صدر في باريس في نهاية الستينات من القرن الماضي، وهناك من الباحثين من يجعل بداية الاستشراق قبل ذلك بقرنين؛ أي في: القرن العاشر الميلادي. ولعل هـذا هـو السبب الذي أدي بنجيب العقيقي إلى أن يجعل كتابه عن المستشرقين -في أجزائه الثلاثة- سجلا للاستشراق على مدى ألف عام، بدءا من الراهب الفرنسي جرير دي أو رالياك (940 - 1003 م) الذي قصد الأندلس ، وتتلمذ على أساتذتها في أشبيلية وقرطبة حتى أصبح أوسع علماء عصره في أوروبا ثقافة بالعربية والرياضيات والفلك، ثم تقلد فيما بعد منصب البابوية في روما باسم سلفستر الثاني (999 - 1003) [6] .

وعلى الرغم من أن الاستشراق -بناء على ذلك- يمتد جذوره إلى ما يقرب من ألف عام مضت فأن مفهوم ( مستشرق ) Orientalist لم يظهر في أوروبا إلا في نهاية القرن الثامن عشر. فقد ظهر أولا في إنجلترا عام 1779م، وفي فرنسا عام 1799م، وأدرج مفهوم ( الاستشراق ) Orientalism في قاموس [ ص: 20 ] الأكاديمية الفرنسية عام 1838م [7] .

ولكن المهم هـنا ليس هـو متى ظهر مفهوم (مستشرق) أو (استشراق) ؟ وإنما المهم هـو متى بدأت الدراسات العربية والإسلامية في أوروبا؟ ومتى بدأ الاشتغال بالإسلام والحضارة الإسلامية؛ سواء بالقبول أو بالرفض؟ وهذا أمر موغل في القدم -كما رأينا- أما المصطلح ذاته فلا يعني شيئا أكثر من إقرار أمر واقع، وإطلاق وصف على الدراسات التي كانت قائمة بالفعل قبل ذلك بقرون عديدة، بصرف النظر عن مدى علمية هـذه الدراسات أو موضوعيتها، فهذه مسألة أخرى قابلة للنقاش حتى فيما يتعلق بالدراسات الاستشراقية في العصر الحاضر. وعلى أية حال فإن الدافع لهذه البدايات المبكرة للاستشراق كان يتمثل في ذلك الصراع الذي دار بين العالمين الإسلامي والنصراني في الأندلس وصقلية ، كما دفعت الحروب الصليبية بصفة خاصة إلى اشتغال الأوروبيين بتعاليم الإسلام وعاداته. ولهذا يمكن القول بأن تاريخ الاستشراق في مراحله الأولى هـو تاريخ للصراع بين العالم النصراني الغربي في القرون الوسطى والشرق الإسلامي على الصعيدين الديني والأيديولوجي [8] .

فقد كان الإسلام كما يقول ( ساذرن Southern) : يمثل مشكلة بعيدة المدى بالنسبة للعالم النصراني في أوروبا على المستويات كافة.

باعتباره مشكلة عملية استدعى الأمر اتخاذ إجراءات معينة كالصليبية والدعوة إلى النصرانية والتبادل التجاري، وباعتباره مشكلة لاهوتية، تطلب بإلحاح العديد من الإجابات على العديد من الأسئلة في هـذا الصدد، وذلك [ ص: 21 ] يقتضي معرفة الحقائق التي لم يكن من السهل معرفتها. وهنا ظهرت مشكلة تاريخية صار من المتعذر حلها، كما ندر إمكانية تناولها دون معرفة أدبية ولغوية يصعب اكتسابها، وصارت المشكلة أكثر تعقيدا بسبب السرية والتعصب، والرغبة القوية في عدم معرفتها خشية الدنس [9] .

التالي السابق


الخدمات العلمية