الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الشريعة الإسلامية، والقانون الروماني

الأمثلة التي ذكرناها من آراء ومواقف المستشرقين من القرآن الكريم والسنة النبوية تكفي شاهدا ودليلا على محاولاتهم المستميتة في سبيل هـدم هـذين الأصلين الكبيرين اللذين يقوم عليهما الإسلام، فالاعتقاد بهما إذا تطرق إليه التخلخل فإن ذلك سيؤدي بدوره إلى تخلخل الاعتقاد في الإسلام من أساسه، ولكن المستشرقين لم يقفوا عند هـذا الحد، فدائرة عملهم أوسع من التشكيك في القرآن والسنة، فهم حريصون على تجريد المسلمين والعقلية الإسلامية والفكر الإسلامي بصفة عامة من كل القيم الإنسانية والحضارية [ ص: 106 ] والابتكارات العلمية. ولن نستطيع بطبيعة الحال أن نعرض في هـذا الكتاب الموجز لكل المزاعم الاستشراقية في هـذا الصدد، ولكننا سنكتفي بأن نشير باختصار شديد إلى أنموذجين يوضحان محاولات المستشرقين في التشكيك في أصالة كل من الشريعة الإسلامية والفلسفة الإسلامية.

أما ما يتعلق بالشريعة الإسلامية: فإن معظم المستشرقين يميلون إلى القول بتأثر الشريعة الإسلامية بالقانون الروماني، على اختلاف فيما بينهم في درجات هـذا التأثر. فمنهم فريق من أمثال ( جولد تسيهر ) و ( فون كريحر ) و ( شيلدون آموس ) ، يذهبون إلى القول بأن الشريعة الإسلامية مستمدة من القانون الروماني، فهذا القانون هـو المصدر الذي أقام فقهاء المسلمين على أساس من قواعده الكيان القانوني للشريعة الإسلامية. وفي ذلك يقول ( شيلدون آموس ) بصريح العبارة : (إن الشرع المحمدي ليس إلا القانون الروماني للإمبراطورية الشرقية معدلا وفق الأحوال السياسية في الممتلكات العربية) . ويقول أيضا : (إن القانون المحمدي ليس سوى قانون جستنيان في لباس عربي) .

ويستدل هـؤلاء على دعواهم بأدلة مختلفة أهمها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان على معرفة واسعة بالقانون الروماني، كما أن فقهاء المسلمين قد تعرفوا على آراء فقهاء مدارس القانون الروماني وأحكام المحاكم الرومانية في البلاد التي كانت لا تزال فيها هـذه المدارس والمحاكم قائمة بعد الفتح الإسلامي. وهناك بالإضافة إلى ذلك تشابه في النظم القانونية والأحكام والقواعد الموجودة في الشريعة والقانون الروماني، الأمر الذي يعني أن الشريعة الإسلامية اقتبست [ ص: 107 ] هذه النظم والأحكام من القانون الروماني باعتباره سابقا عليها [1] .

وهذه الأدلة باطلة ويسهل كشف زيفها وبطلانها، ولا تستطيع أن تثبت أمام النقد العلمي الجاد. فالنبي صلى الله عليه وسلم كان أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يكن لخروجه إلى الشام في المرتين اللتين سافر فيهما أي أثر في إمكان اطلاعه على القانون الروماني. فقد كانت رحلته الأولى مع عمه أبي طالب وهو ابن تسع سنين أو اثنتي عشرة سنة، وأما رحلته الثانية فقد كانت سنه حينذاك خمسا وعشرين سنة، ولم يرافقه فيها إلا عرب خلص، ولم يختلط بأحد من علماء القانون الروماني، فضلا عن أنه لم يكن هـناك أي سبب يدعو الحكام الرومان أو أحد علمائهم لتعليم محمد قواعد القانون الروماني.

أما تعرف علماء المسلمين على القانون الروماني من المدارس والمحاكم الرومانية فإنه زعم باطل؛ لأن هـذه المدارس كانت قد ألغيت بقرار إمبراطوري في 16 ديسمبر (كانون الأول) 533م، وما بقي من هـذه المدارس في روما والقسطنطينية لم يكن له تأثير على المسلمين. أما مدرسة بيروت فقد اندثرت قبل الفتح الإسلامي بثلاثة أرباع القرن. وما أثير حول تأثر الإمام الأوزاعي بالقانون الرماني لا أساس له، لأن الأوزاعي كان من فقهاء مدرسة الحديث، التي كانت أبعد المدارس عن التأثر بمؤثرات أجنبية، وقد قضى الفتح الإسلامي على أي سلطة أجنبية للقضاء في الدولة الإسلامية.

أما القول بالتشابه المزعوم بين الشريعة الإسلامية والقانون الروماني فإن التشابه لا يعني بالضرورة التأثر، فقد يكون ناشئا من تشابه الظروف الاجتماعية، كما أن العقول تتشابه في كثير من أنواع التفكير، ومع ذلك فإنه [ ص: 108 ] على الرغم من هـذا التشابه الظاهري في بعض النظم والقواعد فإن هـناك اختلافات كثيرة وأساسية بينهما، مما يدل على استقلال كل منهما عن الآخر، فضلا عن اختلافهما في مصادر الأحكام، فالخلاف جوهري بينهما؛ إذ تقوم الشريعة الإسلامية على أساس الوحي الإلهي بينما يعتمد القانون الروماني على العقل البشري، ولذلك فإن الصلة بينهما منقطعة كما يقول العالم الفرنسي ( زيس Zeys ) ، فكيف يتصور التوفيق بين نظامين قانونيين وصلا إلى هـذه الدرجة من الاختلاف؟ [2] .

وفي هـذا الصدد يقول الدكتور السنهوري رحمه الله: (إن هـذا القانون بدأ عادات... ونما وازدهر عن طريق الدعوى والإجراءات الشكلية. أما الشريعة الإسلامية فقد بدأت كتابا منزلا من عند الله، ونمت وازدهرت عن طريق القياس المنطقي والأحكام الموضوعية، إلا أن فقهاء المسلمين امتازوا عن فقهاء الرومان، بل امتازوا عن فقهاء العالم باستخلاصهم أصولا ومبادئ عامة من نوع آخر هـي أصول استنباط الأحكام من مصادرها، وهذا ما سموه بعلم: أصول الفقه) [3] .

التالي السابق


الخدمات العلمية