الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الاستشراق والتنصير

إذا كان الاستشراق لا يقوم إلا على أساس معرفة اللغات الشرقية، التي هـي الوسيلة للتعرف على عقائد وحضارات الشرق، فإن التنصير يتفق مع الاستشراق في هـذا الصدد، ويحتم أيضا معرفة لغات من يراد تنصيرهم، وقد كان هـناك اقتناع تام لدى دعاة التنصير في القرن الثالث عشر بضرورة تعلم لغات المسلمين، إذا أريد لمحاولات تنصير المسلمين أن تؤتي ثمارها بنجاح. وقد كان هـذا الاقتناع -الذي ترجم فيما بعد إلى خطة عمل- عاملا هـاما بالنسبة لتطور الاستشراق. ولم يكن من السهل في ذلك الزمان فصل الاستشراق عن التنصير أو عن الدافع الديني بصفة عامة، فالدافع الديني كان هـو السبب الأول في نشأة الاستشراق.

وقد كان من بين الدعاة المتحمسين الذين طالبوا بضرورة تعلم لغات المسلمين لغرض التنصير ( رو جر بيكون ) [1214م - 1294م]، الذي كان يرى أن التنصير هـو الطريقة الوحيدة التي يمكن بها توسيع رقعة العالم [ ص: 27 ] المسيحي. ولبولغ هـذا الغرض لا بد من شروط ثلاثة هـي:

1 - معرفة اللغات الضرورية.

2 - دارسة أنواع الكفر، وتمييز بعضها من بعضها الآخر.

3 - دراسة الحجج المضادة حتى يمكن دحضها [1] .

وقد شارك بيكون في أفكاره (رايموند لول Raymond Lull) [1235م - 1316م ] الذي ولد في جزيرة ميورقة الإسبانية ، وتعلم العربية على يد عبد عربي، وكانت له جهود كبيرة في إنشاء كراسي لتدريس اللغة العربية في أماكن مختلفة. وكان الهدف من كل هـذه الجهود في ذلك العصر وفي العصور التالية هـو التنصير ، وهو إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام واجتذابهم إلى الدين النصراني [2] .

وقد صادق مجمع ( فينا) الكنسي في عام 1312م على أفكار بيكون ولول بشأن تعلم اللغات الإسلامية، وتمت الموافقة على تعليم اللغة العربية في خمس جامعات أوروبية هـي جامعات: باريس، وأكسفورد، وبولونيا، وسلمنكا، بالإضافة إلى جامعة المدينة البابوية ( Kurie ) . وقدر لرايموند لول أن يعيش حتى يشهد تحقيق حلم طالما نادى به، وكان يعتقد أن الوقت بذلك قد حان لإخضاع المسلمين عن طريق التنصير، وبذلك تزول العقبة الكبيرة التيتقف في سبيل تحويل الإنسانية كلها إلى العقيدة الكاثوليكية [3] .

وقد ساعد على تقدم الدراسات الاستشراقية في نهاية العصر الوسيط تلك الصلات السياسية والدبلوماسية مع الدولة العثمانية، التي اتسعت رقعتها حينذاك. وكان للروابط الاقتصادية لكل من إسبانيا وإيطاليا مع كل من تركية وسورية ومصر أثر كبير في دفع حركة الدراسات الاستشراقية. [ ص: 28 ]

وفي القرن السادس عشر الميلادي وما بعده أدت النزعة الإنسانية في عصر النهضة الأوروبية إلى دراسات أكثر موضوعية من ذي قبل، ومن ناحية أخرى شجعت البابوية الرومانية دراسات لغات الشرق من أجل مصلحة التنصير.

وفي عام 1539م تم إنشاء أول كرسي للغة العربية في الكوليج دي فرانس في باريس، وشغل هـذا الكرسي جيوم بوستل (Gguillaume Postel [ ت 1581م]، الذي يعد أول المستشرقين الحقيقين. وقد أسهم كثيرا في إثراء دراسة اللغات والشعوب الشرقية في أوروبا، وجمع في الوقت نفسه -وهو في الشرق- مجموعة هـامة من المخطوطات. وقد سار على نهجه تلميذه (جوزيف اسكاليجر Joseph Scaliger) [ت 1609م].

ولكن عمل بوستل لم يكن أبدا منقطع الصلة بجهود التنصير، صحيح أنه يمتدح ثراء الآداب العربية وبوجه خاص في المؤلفات الطبية والفلكية ويقول: (ليس هـناك أحد يستطيع أن يرفض وسائل علاج الطب العربي، فابن سينا يقول في صفحة واحدة أو صفحتين أكثر مما يقوله جالينوس في خمسة أو ستة مجلدات كبيرة ) .

ولكن بوستل يذكر أيضا بقرار مجمع ( فينا) الكنسي الذي سبق أن أشرنا إليه، ويجمل قيمة معرفة اللغة العربية بقوله: (إنها تفيد بوصفها لغة عالمية في التعامل مع المغاربة والمصريين والسوريين والفرس والأتراك والتتار والهنود، وتحتوي على أدب ثري، ومن يجيدها يستطيع أن يطعن كل أعداء العقيدة النصرانية بسيف الكتاب المقدس، وأن ينقضهم بمعتقداتهم التي يعتقدونها. وعن طريق معرفة لغة واحدة (العربية) يستطيع المرء [ ص: 29 ] أن يتعامل مع العالم كله) .

وقد كان يتباهى بأنه يستطيع عبور آسيا وبلوغ الصين دون مترجم [4] .

وفي عام 1586م أصبح من السهل طباعة الكتب العربية في أوروبا عن طريق المطابع التي أقامها الكاردينال فريناند المديسي Ferdinand deMedici دوق تسكانيا الكبير Tuscany. وقد تم حينذاك طباعة كتب عربية مختلفة من بينها مؤلفات ابن سينا في الطب والفلسفة [5] .

وفي القرن السابع عشر بدأ المستشرقون في جمع المخطوطات الإسلامية، وأنشئت كراسي للغة العربية في أماكن مختلفة. ومما هـو جدير بالذكر أن قرار إنشاء كرسي اللغة العربية في جامعة كامبردج عام 1636م قد نص صراحة على خدمة هـدفين؛ أحدهما: تجاري، والآخر: تنصيري. فقد جاء في خطاب للمراجع الأكاديمية المسئولة في جامعة كامبردج بتاريخ 9 مايو (أيار) 1636م، إلى مؤسس هـذا الكرسي ما يأتي:

(ونحن ندرك أننا لا نهدف من هـذا العمل إلى الاقتراب من الأدب الجيد بتعريض جانب كبير من المعرفة للنور بدلا من احتباسه في نطاق هـذه اللغة التي نسعى لتعلمها، ولكننا نهدف أيضا إلى تقديم خدمة نافعة إلى الملك والدولة عن طريق تجارتنا مع الأقطار الشرقية، وإلى تمجيد الله بتوسيع حدود الكنيسة والدعوة إلى الديانة المسيحية بين هـؤلاء الذين يعيشون الآن في الظلمات) .

ومن هـذا يتضح أنه قد كان هـناك تجاوب متبادل بين الاستشراق والتنصير، إن لم يكن هـناك تماثل في القصد بين المستشرق الأكاديمي والمبشر الإنجيلي. [ ص: 30 ] ويمكن القول بأن التحالف بين الجانبين لا يزال مستمرا بشكل من الأشكال حتى العصر الحاضر [6] . ومن بين الشخصيات التي كان لها أثر كبير في إرساء دعائم الدراسات العربية في أوروبا المستشرق ( توماس إربنيوس Thomas Erpenius ) [ 1548م - 1624م] الذي كان أول أستاذ يشغل كرسي اللغة العربية في جامعة ليدن (1613م) . وقد استطاع عن طريق جهوده العلمية ومؤلفاته في النحو العربي أن يجعل لهولندا مكان الصدارة في الدراسات العربية في أوروبا؛ لما يقرب من قرنين من الزمان. أما موقفه من الإسلام فإنه على الرغم من أنه كان يرى أن القرآن يعد القمة من حيث اللغة، إلا أنه لم يكن يرى فيه من حيث المضمون شيئا أكثر من تقليد مضحك للكتاب المقدس. وكان رأيه في النبي صلى الله عليه وسلم وتعاليمه متفقا تماما مع ذلك النفور الذي كان سائدا حينذاك في الغرب إزاء النبي العربي صلى الله عليه وسلم وتعاليمه [7] .

التالي السابق


الخدمات العلمية