الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
منهج المستشرقين

وقبل عرض أمثلة من آراء هـذه الفئة التي صدرت آراؤها ومواقفها باسم العلم والموضوعية يهمنا هـنا أن نتعرف على المنهج الذي يستخدمه المستشرقون في دراستهم للإسلام.

يقول ( رودي بارت ) :

(فنحن معشر المستشرقين، عندما نقوم اليوم بدراسات في العلوم العربية والعلوم الإسلامية لا نقوم بها قط لكي نبرهن على ضعة العالم العربي الإسلامي، بل على العكس؛ نحن نبرهن على تقديرنا الخاص للعالم الذي يمثله الإسلام، ومظاهره المختلفة، والذي عبر عنه الأدب العربي كتابة، ونحن بطبيعة الحال لا نأخذ كل شيء ترويه المصادر على عواهنه دون أن نعمل فيه النظر، بل نقيم وزنا فحسب لما يثبت أمام النقد التاريخي أو يبدو وكأنه يثبت أمامه، ونحن في هـذا نطبق على الإسلام وتاريخه وعلى المؤلفات العربية التي نشتغل بها المعيار النقدي نفسه الذي نطبقه على تاريخ الفكر عندنا، وعلى المصادر المدونة لعالمنا نحن) [1] .

وقد لا يبدو على هـذا المنهج غبار من وجهة النظر العلمية؛ (فالقوم يدرسون العلوم الإسلامية العربية ويضعون نظريات، ويكونون آراء في أثناء ما يقومون به من دراسات، ويهتمون بتقديم أدلة وأسانيد لهذه الآراء والنظريات، يستمدونها من المراجع الإسلامية نفسها، وهذا العمل في ظاهره عمل علمي سليم، ولكن الفحص الدقيق أثبت أن كثيرا منه [ ص: 77 ] مصنوع، وكثيرا ما يكون الدافع إليه الرغبة في التجريح، وتوهين العقيدة الدينية والشريعة الإسلامية) [2] .

قد عرض مثلا أحد المستشرقين المعاصرين وهو ( جاستون فييت ) في كتابه: (مجد الإسلام ) ، تاريخ الإسلام عن طريق صفحات مختارة من أقوال المؤرخين والكتاب المعاصرين لكل فترة من فترات هـذا التاريخ. وعلى الرغم من ذلك فإن هـذا الكتاب ينضح بالحقد والطعن في الإسلام وتاريخه؛ لأن (جاستون فييت) اختار فقط النصوص التي تتفق مع الاتجاه الذي اختاره هـو سلفا؛ وهو اتجاه يتسم بالعداء والكراهية للإسلام والمسلمين [3] .

والبحث العلمي النزيه لا صلة له إطلاقا بالرغبة في الطعن والتجريح، والبحث عن نقاط الضعف والتشوية، وتسقط الإخطاء. والأسلوب العلمي يحتم ضرورة الاستيثاق من صحة النصوص والأسانيد التي نستنبط منها ما نستنبط من نظريات، ولكن الرغبة في التجريح والتشويه كثيرا ما حملت المستشرقين على التماس أسانيد واهية مرفوضة، يؤيدون بها ما يقررونه من نظريات. (فهم لا يترددون في الاعتماد على الأحاديث الضعيفة، وهم ينقبون في طوايا كتب التاريخ والسير عن أخبار ضعيفة غير ثابتة يدعمون بها آراءهم. ولهم صبر لا ينفد في استكشاف هـذه المخبوءات، واستغلال الضعيف من الدلالات. ومهما يكن من شيء فهم لا يستوعبون دراسة ما بأيديهم من المسائل، وكثيرا ما يغفلون النصوص والأخبار التي تناقض ما يقررون) [4] .

وهذا بطبيعة الحال أمر ليس من العلم في شيء، وإنما هـو انحراف عن النهج العلمي السليم، وهذا الانحراف العلمي هـو للأسف طابع الكثير من [ ص: 78 ] الدراسات الاستشراقية حول الإسلام، الأمر الذي يجعلنا -نحن المسلمين- نقف من هـذه الدراسات موقف الحذر، ويحتم علينا الكشف عما فيها من زيف وخداع، فالكثير من النظريات والآراء التي يقولون بها مبنية على افتراضات لا أساس لها، وتخمينات لا سند لها.

والواقع أنه ليس بالأمر الغريب أن يختلف المستشرقون معنا -نحن المسلمين- في الرأي حول الإسلام، وإنما الغريب أن يتفقوا معنا في الرأي؛ وذلك لأن منطق تفكيرهم بالنسبة للإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم يختلف عن المنطق الذي يصدر عنه تفكير المسلمين. ولهذا تختلف وجهات النظر بيننا وبينهم وستظل مختلفة. فلا ننتظر منهم أن يتبنوا وجهة نظرنا التي تنظر إلى الإسلام على أنه دين سماوي ختم به الله الرسالات السماوية، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين، وأن القرآن الكريم وحي الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنهم لو فعلوا ذلك لأصبحوا مسلمين. وهذا ما حدث بالفعل بالنسبة لبعضهم ممن تحول إلى الإسلام، وهذا التحول إلى الإسلام يعني في الوقت نفسه التحول عن الخط الاستشراقي.

ونحن لا نطلب من كل مستشرق أن يغير معتقده ويعتقد ما نعتقده عندما يكتب عن الإسلام، ولكن هـناك أوليات بديهية يتطلبها المنهج العلمي السليم؛ فعندما أرفض وجهة نظر معينة لا بد أن أبين للقارئ أولا وجهة النظر هـذه من خلال فهم أصحابها لها، ثم لي بعد ذلك أن أوافقها أو أخالفها.

وعلى هـذا الأساس نقول: إن الكيان الإسلامي كله يقوم على أساس الإيمان بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي تلقى القرآن وحيا من عند الله، ويجب على العالم النزيه والمؤرخ المحايد أن يقول ذلك لقرائه عندما يتعرض للحديث عن الإسلام حتى يستطيع القارئ أن يفهم سر قوة هـذا الإيمان في تاريخ المسلمين [5] ، ثم له بعد ذلك أن يخالف المسلمين في معتقدهم وتصوراتهم أو [ ص: 79 ] يوافقهم (غير أن هـذا المنهج المنطقي والطبيعي في العرض قلما يتبع مع الأسف، وكثيرا ما يحدث العكس، فيتعرض القارئ نتيجة لذلك -ما لم يكن على علم- إلى شيء من الإيحاء برأي معين، أو يتعرض على الأقل إلى اختلاط في الأمور يجعله عاجزا عن التمييز بين الأصل المتوارث لدى جماعة المسلمين وبين رأي الكاتب.

وهكذا نجد كثيرا من المستشرقين الذين يحملون غيرهم أعباء معارفهم الخاصة يهملون ملاحظة مبادئ أولية للمنهج العلمي في معالجة المسائل التاريخية، فهم يؤكدون مثلا أن القرآن من إنشاء محمد. ثم يذهبون مذهبا بعيدا في تأسيس الأحكام التاريخية والعقيدية والأدبية وغيرها على هـذا التأكيد، وسرعان ما ترتفع هـذه بمحض الشهرة إلى مرتبة الحقائق) [6] .

وقد يكون صحيا القول بأن ألوان التحامل القديم على الإسلام قد خفت حدتها إلى درجة كبيرة منذ مطلع هـذا القرن، ولكنها للأسف الشديد لا تزال تعيش قوية، ولا تزال هـناك فئة من الباحثين الغربيين المهتمين بدراسة الإسلام تحرص حتى اليوم على نشر ألوان التحامل القديم في العالم الغربي على نطاق واسع بأساليب مختلفة.

فإذا عبر المسلمون عن استيائهم إزاء التحامل الظالم على الإسلام من جانب المستشرقين فإن هـذا يعني في نظر بعض الباحثين الغربيين عدم قدرة المسلمين على فهم الأمور فهما علميا، فالمستشرقون ليس لديهم أحكام مسبقة كما نعتقد، والحقائق التي يتوصلون إليها تتسم بالحياد والموضوعية والعلمية [7] . [ ص: 80 ]

ومعنى ذلك أن علينا أن نتقبل ما يقوله السادة المستشرقون عنا وعن ديننا ونحن صاغرون، وليس لنا حتى مجرد حق التعبير عن الاستياء وإلا فنحن متخلفون جاهلون، قاصرون عن فهم الأمور فهما علميا.

ولست أدري من الذي ندب مثل هـؤلاء الناس المتغطرسين لتنويرنا؟ ومن أعطاهم حق الوصاية الفكرية علينا؟

أليس هـذا يعد تدخلا سافرا في أخص أمورنا الذاتية؟ وهل يقبل هـؤلاء أن نتدخل في أي أمر من أمورهم صغر أم كبر؟ [ ص: 81 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية