الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الفلسفة الإسلامية

يميل نفر من المستشرقين إلى تجريد العقلية الإسلامية من كل لون من ألوان الإبداع الفكري، وينكرون على فلاسفة الإسلام الجدة والأصالة في تفكيرهم، ويعتبرونهم مجرد نقلة للتراث اليوناني الفلسفي. وتقوم هـذه [ ص: 109 ] الدعوى على أساس عنصري، يقسـم الشعوب إلى: ساميين، وآريين. فالعرب -وهم من الجنس السامي- لا قدرة لهم على التفكير الفلسفي وتناول الأمور المجردة. أما الشعوب الآرية -ومنهم اليونانيون القدماء- فهم وحدهم أصحاب المقدرة على ذلك [1] .

ويصرح ( رينان ) في كتابه: (تاريخ اللغات السامية) بأنه أول من قرر هـذا الرأي الذي يذهب إلى جعل الجنس السامي دون الجنس الآري. وبناء عليه فإن ما لدى العرب من فلسفة ليس إلا اقتباسا صرفا جديبا وتقليدا للفلسفة اليونانية، وبمعنى آخر: إن الفلسفة العربية هـي الفلسفة اليونانية مكتوبة بحروف عربية [2] .

وذهب ( كارل هـينريش بيكر ) إلى أنه بينما تخضع الروح الإسلامية للطبيعة الخارجية فتفنى الذوات الفردية في كل لا تمييز فيه، فلا تتصور الأفكار إلا على الإجماع، نجد أن الروح اليونانية تمتاز بالفردية واحترام الذاتية، وهما محل النظر الفلسفي، ولهذا فقد كان اليونان أقدر على التفلسف من المسلمين [3] .

وقد تابع (جوتييه) وغيره (رنان) في دعواه العنصرية، وقال ( جوتييه ) : (هذه هـي عقلية الدين الإسلامي وروحه في حقيقتها ودقائقها وما ظهر منها وما بطن، هـو دين سام بحت؛ مفرق وموحد بأضيق المعاني، وغير عقلي، [ ص: 110 ] ولا يتفق والتفكير الحر، وقليل الميل إلى التصوف ولو في عهده الأول على الأقل، ومن ثم في روحه الحقة) [4] .

وزعم رينان أن الإسلام دين لا يشجع على العلم والفلسفة والبحث الحر، بل هـو عائق لها.

ويذهب (تنمان) أيضا إلى أن كتاب المسلمين المقدس يعوق النظر العقلي الحر [5] .

ولا يعنينا هـنا أن نناقش النظرية العنصرية التي تقسم الشعوب إلى: ساميين، وآريين، فقد كادت تتلاشى لعدم استنادها على أساس علمي سليم [6] ، وإن كانت قد تركت آثارها في العقلية الأوروبية، ولكن الذي يهمنا هـنا هـو ما رأيناه من إقحام الإسلام في تلك المزاعم، ووصفه بأنه دين يعوق النظر العقلي ولا يتفق والتفكير الحر، وأنه يقف عقبة في سبيل العلم والفلسفة والبحث الحر، فالأمر ليس تجريد العقلية العربية من الأصالة والابتكار فحسب، وإنما هـو تفريغ الإسلام من كل قيمة إيجابية، وجعله أداة جامدة تقف في سبيل التقدم الإنساني، وتعويق سيره في هـذه الحياة.

ولست أدري كيف يستبيح المستشرقون لأنفسهم إطلاق هـذه المزاعم، والعالم كله لم يعرف دينا من الأديان يعلي من شأن العقل مثل الإسلام، والقرآن الكريم شاهد على ذلك؟

فقد كرم الله الإنسان وفضله على كثير من خلقه، ولم يبلغ الإنسان كل هـذا التكريم الذي سما به فوق كل الكائنات إلا بالعقل الذي اختصه الله به، وميزه به على سائر خلقه. وقد نوه الإسلام بالعقل والتعويل عليه في أمور العقيدة والمسئولية والتكليف، ولا تأتي الإشارة إلى العقل في القرآن الكريم إلا في [ ص: 111 ] مقام التعظيم والتنبيه إلى وجوب العمل به والرجوع إليه [7] . وإذا كانت وظيفة العقل على هـذا النحو، فإن محاولة تعطيله عن أداء هـذه الوظيفة يعد تعطيلا للحكمة التي أرادها الله من خلق العقل، مثلما يعطل الإنسان حاسة من الحواس التي أنعم الله بها على الإنسان عن أداء وظيفتها التي خلقت من أجلها، وهؤلاء يصفهم القرآن بأنهم أحط درجة من الحيوان، حيث يقول: ( لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هـم أضل ) (الأعراف : 179) .

ومن هـذا المنطلق يعتبر الإسلام عدم استخدام العقل خطيئة من الخطايا وذنبا من الذنوب؛ يقول القرآن حكاية عن الكفار يوم القيامة:

( وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم ) (الملك: 10،11) .

ولهذا كانت دعوة القرآن الكريم للإنسان لاستخدام ملكاته الفكرية دعوة صريحة لا تقبل التأويل، وسيحاسب الإنسان على مدى حسن أو إساءة استخدامه لها، مثلما يسأل عن استخدامه لباقي وسائل الإدراك الحسية، وفي ذلك يقول القرآن الكريم : ( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا ) ( الإسراء :66) .

وقد حطم الإسلام العوائق التي تقف في سبيل تأدية العقل لوظيفته؛ فرفض الإسلام التبعية الفكرية والتقليد الأعمى، وعاب على المشركين تقليدهم الأعمى لأعرافهم وتقاليدهم متجاهلين في ذلك حكم العقل، كما حذر النبي صلى الله عليه وسلم من مثل هـذا التقليد الأعمى، الذي لا يليق بكرامة الإنسان فقال: ( لا تكونوا إمعة ) [رواه الترمذي]. [ ص: 112 ]

كما قضى الإسلام على الدجل والشعوذة، والاعتقاد في الخرافات والأوهام، وأبطل الكهانة، وركز على المسئولية الفردية، وجعل الأمن على العقل من بين المقاصد الضرورية الأساسية التي قصدت إليها الشريعة الإسلامية لقيام مصالح الدين والدنيا، وهذه المقاصد هـي: حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وحرر الإسلام الفرد المؤمن بعقيدة التوحيد من الخوف المهين من السلطة الدنيوية، ورفعه إلى مقام العزة.

وهكذا كفل الإسلام للعقل المناخ الحقيقي الذي يستطيع فيه أن يفكر ويتأمل ويعي ويفهم، وبهذا تم للإنسان استقلال الإرادة واستقلال الرأي والفكر. وقد كان لهذا الموقف الأساسي للإسلام من العقل أثره العظيم في صياغة الحضارة الإسلامية والعقلية والإسلامية.

فقد وعى الإنسان المسلم أن الله قد خلق له هـذا الكون بما فيه ليمارس فيه نشاطاته المادية والروحية على السواء، ويشير القرآن الكريم إلى ذلك في آيات عديدة، منها قوله تعالى:

( وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الجاثية: 13) . فهل هـناك دعوة إلى البحث والنظر والتفكير والتأمل أصرح من ذلك؟

إن التفكير الذي تنص عليه هـذه الآية أمر جوهري مقصود، فإذا كان الله قد سخر للإنسان هـذا الكون بما فيه فلا يجوز له أن يقف منه موقف اللامبالاة، بل ينبغي عليه أن يتخذ لنفسه منه موقفا إيجابيا، وإيجابيته تتمثل في درسه والنظر فيه للاستفادة منه بما يعود على البشرية بالخير. والاستفادة من كل هـذه المسخرات في هـذا الكون لا تكون إلا بالعلم والدراسة والفهم، والنظر في ملكوت السماوات والأرض على هـذا النحو [ ص: 113 ] سيؤدي إلى الرقي المادي، وفي الوقت نفسه إلى الرقي الروحي، يقول القرآن الكريم:

( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) (فصلت: 53) .

وبعد هـذا التوضيح نقول لمن يمارون في ذلك كله ويشككون فيه ما قاله القرآن الكريم :

( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) (محمد: 24) .

التالي السابق


الخدمات العلمية