الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( فإن أكل منه الكلب أو الفهد لم يؤكل وإن أكل منه البازي أكل ) والفرق ما بيناه في دلالة التعليم وهو مؤيد بما روينا من حديث عدي رضي الله عنه وهو حجة على مالك والشافعي في قوله القديم في إباحة ما أكل الكلب منه ( ولو أنه صاد صيودا ولم يأكل منها [ ص: 119 ] ثم أكل من صيد لا يؤكل هذا الصيد ) ; لأنه علامة الجهل ، ولا ما يصيده بعده حتى يصير معلما على اختلاف الروايات كما بيناها في الابتداء

وأما الصيود التي أخذها من قبل فما أكل منها لا تظهر الحرمة فيه لانعدام المحلية وما ليس بمحرز بأن كان في المفازة بأن لم يظفر صاحبه بعد تثبت الحرمة فيه بالاتفاق ، وما هو محرز في بيته يحرم عنده خلافا لهما

هما يقولان : إن الأكل ليس يدل على الجهل فيما تقدم ; لأن الحرفة [ ص: 120 ] قد تنسى ، ولأن فيما أحرزه قد أمضى الحكم فيه الاجتهاد فلا ينقض باجتهاد مثله ; لأن المقصود قد حصل بالأول ، بخلاف غير المحرز ; لأنه ما حصل المقصود من كل وجه لبقائه صيدا من وجه لعدم الإحراز فحرمناه احتياطا

وله أنه آية جهله من الابتداء ; لأن الحرفة لا ينسى أصلها ، فإذا أكل تبين أنه كان ترك الأكل للشبع لا للعلم ، وتبدل الاجتهاد قبل حصول المقصود ; لأنه بالأكل فصار كتبدل اجتهاد القاضي قبل القضاء

التالي السابق


( قوله وهو مؤيد بما روينا من حديث عدي ) أقول : في كلامه هذا ركاكة ; لأن ضمير هو في قوله وهو مؤيد إن كان راجعا إلى الفرق كما هو الظاهر من أسلوب تحريره ، يرد عليه أن حديث عدي لا يفيد الفرق المذكور أصلا ، فإنه إنما يدل على أن لا يؤكل ما أكل منه الكلب ، ولا يدل على أن يؤكل ما أكل منه البازي ، وإفادة الفرق إنما تكون بالدلالة عليهما معا وإن كان راجعا إلى مضمون قوله فإن أكل منه الكلب أو الفهد لم يؤكل كان حق قوله : وهو مؤيد بما رويناه من حديث عدي أن يذكر عقيب قوله فإن أكل منه الكلب أو الفهد لم يؤكل ، ولما وسط بينهما قوله وإن أكل منه البازي أكل

وقوله : والفرق ما بيناه في دلالة التعليم كان الكلام قلقا كما لا يخفى ( قوله وهو حجة على مالك والشافعي في قوله القديم في إباحة ما أكل الكلب منه ) فإن قيل : روى أبو ثعلبة الخشني رضي الله عنه { أنه صلى الله عليه وسلم قال له في صيد الكلب : كل وإن أكل منه } وذلك دليل [ ص: 119 ] واضح لهما

أجيب بأنه خبر واحد لا يعارض قوله تعالى { فكلوا مما أمسكن عليكم } فإن الإمساك عليهم أن لا يأكل منه ، وحين أكل منه دل أنه أمسك على نفسه ، يؤيده قوله عليه الصلاة والسلام في حديث عدي { فإن أكل منه فلا تأكل ; لأنه إنما أمسك على نفسه } كذا في العناية أخذا من النهاية

أقول : يرد على هذا الجواب أن قوله تعالى { فكلوا مما أمسكن عليكم } إنما يدل على إباحة أكل ما لم يأكل منه الكلب ، ولا يدل على عدم إباحة أكل ما أكل منه إلا بطريق مفهوم المخالفة ، وهو ليس بمعتبر عندنا كالعرف في علم الأصول ، فلم يتحقق التعارض بين ذلك الحديث وبين قوله تعالى { فكلوا مما أمسكن عليكم } حتى يلزم أن يترك العمل بالحديث لكونه خبر واحد

لا يقال : يحصل بهذا الجواب إلزام الشافعي ; لأن مفهوم المخالفة حجة عنده ، وهذا القدر كاف في صحة الجواب ; لأنا نقول : لا يحصل إلزامه أيضا ; لأن من يقول يكون المفهوم حجة لا ينكر أن المنطوق أقوى منه فلا يتحقق حكم التعارض عنده أيضا

والحق عندي في الجواب عن أصل السؤال أن يقال : حديث أبي ثعلبة معارض بحديث عدي ، وحديث عدي مرجح على حديث أبي ثعلبة ; لأن حديثه يحل ما أكل منه الكلب ، وحديث عدي يحرمه ، وقد عرف في أصول الفقه أن المحرم يرجح على المحلل عند التعارض فيجعل ناسخا له فوجب العمل بحديث عدي دون حديث أبي ثعلبة ( قوله ولا ما يصيده بعده حتى يصير معلما على اختلاف الروايات كما بيناها في الابتداء ) قال صاحب العناية : أراد ما ذكر أنه يحل عنده ما اصطاده ثالثا إلخ

أقول : تفسير مراد المصنف بما ذكره هذا الشارح ليس بصحيح ; لأن فيما ذكره المصنف بقوله : يحل عنده ما اصطاده ثالثا إلخ روايتين لا غير : رواية عند أبي حنيفة وهي حل ما اصطاده ثالثا ، ورواية عند أبي يوسف ومحمد وهي عدم حل ذلك

وقد قال المصنف ها هنا على اختلاف الروايات كما بيناها بصيغة الجمع ، فكيف يتصور أن يكون مراده ما ذهب إليه الشارح المذكور ؟ فالصواب أن مراد المصنف بقوله ها هنا على اختلاف الروايات كما بيناها في الابتداء وهو الإشارة إلى ما ذكره فيما مر بقوله ثم شرط ترك الأكل ثلاثا وهذا عندهما وهو رواية عن أبي حنيفة إلى آخر ما ذكره في تلك المسألة ، فحينئذ تتحقق الروايات وتنتظم صيغة الجمع كما لا يخفى ( قوله هما يقولان إن الأكل ليس يدل على الجهل فيما تقدم ; لأن الحرفة [ ص: 120 ] قد تنسى ) أقول : الظاهر مما ذكره بعد هذا بقوله ولأن فيما أحرزه إلخ أن يكون المذكور ها هنا دليلا تاما لهما ، فيرد عليه أنه لو تم لدل على أن لا تثبت الحرمة عندهما فيما كان غير محرز في المفازة أيضا لجريان هذا الدليل في ذلك أيضا مع أنه تثبت الحرمة فيه بالاتفاق كما صرح به المصنف من قبل فتأمل




الخدمات العلمية