الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا قصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس ، ولا بين الحر والعبد ، ولا بين العبدين ) خلافا للشافعي في جميع ذلك إلا في الحر يقطع طرف العبد . ويعتبر الأطراف بالأنفس لكونها تابعة لها . [ ص: 236 ] ولنا أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فينعدم التماثل بالتفاوت في القيمة ، وهو معلوم قطعا بتقويم الشرع فأمكن اعتباره . بخلاف التفاوت في البطش لأنه لا ضابط له فاعتبر أصله ، وبخلاف الأنفس لأن المتلف إزهاق الروح ولا تفاوت فيه .

التالي السابق


( قوله ولنا أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فينعدم التماثل بالتفاوت في القيمة ) قال صاحب الكفاية : فإن قيل : قوله تعالى { والعين بالعين } والأذن بالأذن مطلق يتناول موضع النزاع فيكون حجة عليكم . قلنا : قد خص منه الحربي والمستأمن ، والنص العام إذا خص منه شيء يجوز تخصيصه بخبر الواحد فخصصناه بما روي عن عمران بن حصين أنه قال { قطع عبد لقوم فقراء أذن عبد لقوم أغنياء ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقض بالقصاص } انتهى .

أقول : فيه نظر أما أولا فلأنه قد تقرر في علم الأصول أن النص العام إذا خص منه شيء بكلام مستقل موصول به يكون ذلك العام المخصوص منه البعض ظنيا في الباقي فيجوز تخصيصه بخبر الواحد ، وأما إذا أخرج من النص العام شيء بما هو مفصول عنه غير موصول به فلا يكون ذلك ظنيا في الباقي بل يكون باقيا على حالته [ ص: 237 ] الأولى ، ولا شك أن مخرج الحربي والمستأمن من الآية المذكورة ليس بكلام موصول بها فتكون باقية على قطعيتها الأصلية فلا يجوز تخصيصها بخبر الواحد ، وقدمنا غير مرة نظير هذا النظر في محاله وأما ثانيا فلأن حديث عمران بن حصين إنما يفيد عدم جريان القصاص في الأطراف بين العبدين ، ولا يفيد عدم جريانه فيها بين الرجل والمرأة ولا بين الحر والعبد ، فبقي الاعتراض بإطلاق الآية المذكورة في هاتين الصورتين فلم يتم الجواب .

والصواب عندي في الجواب أن يقال : إن الآية المذكورة آية القصاص والقصاص ينبئ عن المماثلة ، فالمراد بما في الآية المذكورة ما يمكن فيه المماثلة لا غير كما صرح به صاحب الكشاف في تفسير هاتيك الآية من التنزيل حيث قال : ومعناه ما يمكن فيه القصاص وتعرف المساواة ، وأشار إليه المصنف في صدر هذا الباب حيث قال : وهو ينبئ عن المماثلة ، فكل ما أمكن رعايتها فيه يجب فيه القصاص وما لا فلا ، وأشار إليه هاهنا أيضا حيث قال : فينعدم التماثل بالتفاوت بالقيمة فلم تكن الآية المذكورة مجراة على ظاهر إطلاقها حتى يكون إطلاقها حجة علينا فيما نحن فيه ، وكيف يتصور إجراؤها على ظاهر إطلاقها ، ولا قصاص في العين إذا قلعها بالإجماع لعدم إمكان المماثلة في القلع ، وكذا الحال في قطع اليد أو الرجل من غير المفصل ، وكذا فيما إذا قطع الحر طرف العبد ، فظهر أن المدار في وجوب القصاص إمكان المماثلة وأن معنى النظم الشريف مصروف إلى ذلك فاندفع الاعتراض الناشئ من توهم الإطلاق .

ثم إنه بقي في هذا المقام إشكال قوي ذكر في عامة الشروح وهو أن يقال : سلمنا وجود التفاوت في القيمة في الأطراف وأنه يمنع الاستيفاء ، لكن المعقول منه أن يمنع استيفاء الأكمل بالأنقص دون العكس ; ألا يرى أن الشلاء تقطع بالصحيحة وأنتم لا تقطعون يد المرأة بيد الرجل أيضا ، والشراح كانوا في طريق دفعه طرائق قددا ، فقال صاحب العناية : فالجواب أنا قد ذكرنا أن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال لأنها خلقت وقاية للأنفس كالمال ، فالواجب أن يعتبر التفاوت المالي مانعا مطلقا والشلل ليس منه فيعتبر مانعا من جهة الأكمل لأنه من حيث إنه ليس تفاوتا ماليا ينبغي أن لا يعتبر فيما يسلك بها مسلك الأموال ومن حيث إنه يوجب تفاوتا في المنفعة [ ص: 238 ] ينتفي به المماثلة ينبغي أن يعتبر ، فقلنا : يعتبر من جهة الأكمل لئلا يلزم أن يكون باذلا للزيادة في الأطراف ، ولا يعتبر من جهة الأنقص لأنه إسقاط والإسقاط جائز دون البذل بالأطراف انتهى .

أقول : فيه بحث أما أولا فلأن ما ذكره من أن التفاوت المالي يجب أن يعتبر مانعا مطلقا ، وأما ما ليس تفاوتا ماليا بل موجبا للتفاوت في المنفعة كالشلل فيعتبر مانعا من جهة الأكمل ولا يعتبر مانعا من جهة الأنقص تحكم بحت ، لأن العلة التي أقامها على أن الثاني لا يعتبر من جهة الأنقص وهي أنه إسقاط والإسقاط جائز في الأطراف دون البذل متمشية بعينها في الأول أيضا ، إذ لا شك أنه كما يجوز للإنسان إسقاط حقه في المنفعة يجوز له إسقاط حقه المالي أيضا بلا تفاوت بينهما ، فينبغي أن لا يعتبر التفاوت المالي أيضا مانعا من جهة الأنقص وأما ثانيا فلأن كون الشلل مما لا يوجب التفاوت المالي ممنوع ، كيف وقيمة اليد تتفاوت بالصحة والشلل قطعا ، فإن الشرع جعل أرش اليد الصحيحة نصف دية النفس وجعل أرش اليد الشلاء حكومة عدل كما صرحوا به في الديات وأشار إليه صاحب العناية هاهنا أيضا حيث قال في أثناء تعليل المسألة التي نحن فيها ، ولأن أرش الأطراف مختلف فصارت كالصحيح والأشل .

وقال صاحب النهاية في دفع الإشكال المذكور قلنا : نعم إذا كان التفاوت بسبب حسي كالشلل وفوات بعض الأصابع فهو كما قلت : يعني يمنع استيفاء الأكمل بالأنقص دون العكس ، فأما إذا كان التفاوت بمعنى حكمي فإنه يمنع استيفاء كل واحد منهما بصاحبه كاليمين مع اليسار وهذا المعنى وهو أن التفاوت إذا كان لمعنى حسي فمن له الحق إذا رضي بالاستيفاء يجعل مبرئا لبعض حقه مستوفيا لما بقي وذلك جائز ، ولهذا لا يستوفى الأكمل بالأنقص وإن رضي به القاطع ، لأنه لا يكون بالرضا باذلا للزيادة ، ولا يحل استيفاء الطرف بالبذل .

فأما إذا كان التفاوت بمعنى حكمي فلا وجه لتمكنه من الاستيفاء منها بطريق إسقاط البعض ولا بطريق البذل انتهى . واقتفى أثره صاحب معراج الدراية وصاحب العناية .

أقول : وفيه أيضا بحث ، إذ الفرق بين التفاوت الحسي وبين التفاوت الحكمي في استيفاء الأنقص بالأكمل تحكم أيضا ، فإنه إذا تقرر التفاوت بين الشيئين بالكمال والنقصان فصاحب الأكمل إن رضي بأن يستوفي في الأنقص من صاحب الأنقص بمقابلة الأكمل يصير مسقطا لبعض حقه مستوفيا لما بقي بالضرورة ، سواء كان ذلك التفاوت أمرا حسيا أو أمرا حكميا . وأما صاحب الأنقص ، فإن رضي بأن يستوفي منه صاحب الأنقص الأكمل بمقابلة الأنقص يصير باذلا لزيادة حقه بالضرورة أيضا بلا تفاوت بين كون سبب التفاوت حسيا أو حكميا ، والبذل في الأطراف غير جائز بلا خلاف . وأما إسقاط الحق بالرضا والاختيار فجائز في جميع الأمور ، فلا مجال للفرق المزبور . فإن قلت : السبب الحكمي لا يفيد التفاوت الحقيقي ، وإسقاط البعض وبذل الزيادة فرع التفاوت الحقيقي فهذا مدار الفرق المذكور .

قلت : لا نسلم أن إسقاط بعض الحق وبذل زيادته فرع التفاوت الحسي الحقيقي ، فإن كثيرا من الحقوق الشرعية الغير الحسية يجري فيها الكمال والنقصان ، فلا جرم يكون الرضا بالناقص منها عند استحقاقه الكامل إسقاطا لبعض الحق ، ويكون إيفاء الكامل منها [ ص: 239 ] بدل الناقص بذلا للزيادة ، كيف ولو سلم ذلك لزم أن لا يتم أصل دليل المسألة التي نحن بصددها ، فإن مدار ذلك على انعدام التماثل في الأطراف بتحقق التفاوت الحكمي بينها .

وقال صاحب الكفاية في دفع ذلك الإشكال قلنا : شرع القصاص في الأصل يعتمد المساواة ، فإن كان النقصان ثابتا باعتبار الأصل كنقصان طرف الأنثى والعبد من طرف الذكر والحر منع شرع القصاص لانتفاء محله ، وإن كان التساوي في الأصل ثابتا والتفاوت باعتبار أمر عارض كان القصاص مشروعا فيمنع استيفاء الكامل بالناقص دون عكسه إذا رضي به صاحب الحق انتهى . ويقرب من هذا رأي تاج الشريعة في الفرق بين المسألتين .

أقول : وفيه أيضا بحث ، لأنه إن أريد أن شرع القصاص يعتمد المساواة بحسب الأصل ولا اعتبار للتفاوت بحسب أمر عارض يلزم أن يجوز استيفاء الكامل وهو الصحيح بالناقص وهو الأشل ، كما يجوز عكسه لأنهما متساويان بحسب أصل الخلقة ، والتفاوت بينها بحسب أمر عارض وهو الشلل مع أنه لا يجوز استيفاء الكامل بالناقص بلا ريب ، وإن أريد أن شرع القصاص يعتمد المساواة من كل الوجوه لكن يجوز استيفاء الناقص بالكامل إذا رضي صاحب الحق به لرضا صاحب الحق بإسقاط بعض حقه لا لتحقق المساواة المعتبرة في شرع القصاص فمع إباء عبارة الجواب المذكور عنه جدا يلزم أن يجوز استيفاء طرف المرأة بطرف الرجل أيضا إذا رضي الرجل به لوجود رضا صاحب الحق بإسقاط بعض حقه في هاتيك الصورة أيضا مع أنه لا يجوز عندنا أصلا فتأمل حق التأمل ، فلعل حل هذا المقام على وجه يرتفع به الإشكال عنه بالمرة مما تسكب فيه العبرات .




الخدمات العلمية