الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( وقتل الخطأ تجب به الدية على العاقلة والكفارة على القاتل ) لما بينا من قبل . قال : ( والدية في الخطأ مائة من الإبل أخماسا عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن مخاض وعشرون حقة وعشرون جذعة ) وهذا قول ابن مسعود رضي الله عنه ، وأخذنا نحن والشافعي به لروايته { أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في قتيل قتل خطأ أخماسا } على نحو ما قال ، ولأن ما قلناه أخف فكان أليق بحالة الخطإ لأن الخاطئ معذور ، غير أن عند الشافعي يقضي بعشرين ابن لبون مكان ابن مخاض والحجة عليه ما رويناه .

[ ص: 275 ] قال ( ومن العين ألف دينار ومن الورق عشرة آلاف درهم ) وقال الشافعي : من الورق اثنا عشر ألفا لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بذلك . ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه { أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بالدية في قتيل بعشرة آلاف درهم } . وتأويل ما روي أنه قضى من دراهم كان وزنها وزن ستة وقد كانت كذلك . قال ( ولا تثبت الدية إلا من هذه الأنواع الثلاثة عند أبي حنيفة ، وقالا منها ومن البقر مائتا بقرة ، ومن الغنم ألفا شاة ، ومن الحلل مائتا حلة كل حلة ثوبان ) .

[ ص: 276 ] لأن عمر رضي الله عنه هكذا جعل على أهل كل مال منها . وله أن التقدير إنما يستقيم بشيء معلوم المالية ، وهذه الأشياء مجهولة المالية ولهذا لا يقدر بها ضمان ، والتقدير بالإبل عرف بالآثار المشهورة وعدمناها في غيرها . وذكر في المعاقل أنه لو صالح على الزيادة على مائتي حلة أو مائتي بقرة لا يجوز ، وهذا آية التقدير بذلك . ثم قيل : هو قول الكل فيرتفع الخلاف ، وقيل هو قولهما .

التالي السابق


( قوله وهذا قول ابن مسعود وأخذنا نحن والشافعي به لروايته { أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى في قتيل قتل خطأ أخماسا } على نحو ما قال ) أقول : فيه شيء ، وهو أن ابن مسعود وإن روى قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على نحو ما قاله إلا أن عليا رضي الله عنه كان يقول : الدية في الخطإ مائة من الإبل أرباعا : خمس وعشرون حقة ، وخمس وعشرون جذعة ، وخمس وعشرون ابنة لبون ، وخمس وعشرون ابنة مخاض ، ذكره أبو يوسف رحمه الله في كتاب الخراج . وذكر في غاية البيان وغيرها من الشروح ، والمقادير لا تعرف إلا سماعا فكان كالمرفوع .

فصار ما رواه ابن مسعود معارضا به فكيف يتم جعل المصنف مجرد رواية ابن مسعود رضي الله عنه دليلا على ما أخذنا نحن والشافعي به بدون بيان الرجحان فيما رواه ابن مسعود . نعم كون ما رواه أليق بحالة الخطأ لكونه أخف يصلح أن يكون مرجحا لما رواه . وعن هذا قال تاج الشريعة بعد بيان اختلاف الصحابة في أسنان الإبل في دية الخطأ : ونحن رجحنا رواية ابن مسعود لأنه أوفق لموضوع دية الخطإ وهو التخفيف ، إلا أن قول المصنف : ولأن ما قلناه أخف فكان أليق بحالة الخطإ لأن الخاطئ معذور يشعر بأن هذا دليل مستقل وما قبله أيضا دليل مستقل ، وهذا ينافي ضم الثاني إلى الأول ليحصل به الرجحان ، وبالجملة في تحرير المصنف هنا نوع ركاكة ، وكأن صاحب العناية تنبه له حيث غير أسلوب تحرير المصنف في شرح هذا المقام فقال بعد بيان ما رواه ابن مسعود وما روي عن علي رضي الله عنه ، لكن ما قلنا أخف فكان أولى بحال الخطإ لأن الخاطئ معذور انتهى تبصر .

( قوله غير أن عند الشافعي يقضي بعشرين ابن لبون مكان ابن مخاض ) أقول : هنا كلام ، وهو أن قوله [ ص: 275 ] هذا استثناء من قوله وأخذنا نحن والشافعي به كما صرح به في العناية وغيرها .

والمقصود به بيان الفرق بيننا وبين الشافعي بعد الاتفاق في المأخذ ، لكن فيه إشكال ، إذ الظاهر أن ضمير به في قوله وأخذنا نحن والشافعي به بعد قوله وهذا قول ابن مسعود راجع إلى قول ابن مسعود فيكون المأخذ المتفق عليه بيننا وبين الشافعي هو قول ابن مسعود ، فبعد ذلك كيف يتم القول بأن عند الشافعي يقضي بعشرين ابن لبون مكان ابن مخاض ، والقضاء بابن لبون مكان ابن مخاض ينافي الأخذ بقول ابن مسعود لأن ابن مخاض متعين في قوله وإنما الذي يصلح أن يكون مأخذا لمذهب الشافعي وهو القضاء بعشرين ابن لبون مكان ابن مخاض ما روى مالك في الموطأ عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار أنه كان يقول : في دية الخطأ عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة كما ذكر في غاية البيان فليتأمل في التوجيه ( قوله ولا تثبت الدية إلا من هذه الأنواع الثلاثة عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : منها ومن البقر مائتا بقرة ومن الغنم ألفا شاة ، ومن الحلل مائتا حلة ) قال جماعة من الشراح : فائدة هذا الاختلاف إنما تظهر فيما إذا صالح القاتل مع ولي القتيل على أكثر من مائتي بقرة أو غيرها [ ص: 276 ] على قول أبي حنيفة كما هو المذكور في كتاب الديات : يجوز كما لو صالح على أكثر من مائتي فرس ، وعلى قولهما لا يجوز كما لو صالح على أكثر من مائة من الإبل انتهى .

أقول : ليت شعري ما بالهم صوروا ظهور فائدة هذا الاختلاف في هذا المضيق وحصروا فيه بكلمة إنما مع كون ظهور فائدته في غير هذه الصورة أظهر وأجلى ، فإن للقاتل الخيار في أداء الدية من أي نوع شاء من أنواع الدية لا من غير أنواعها كما صرحوا به ، فعلى قولهما يتمكن القاتل من أدائها من نوع البقر أو نوع الغنم أو نوع الحلل كما يتمكن من أدائها من الأنواع الثلاثة المتفق عليها وهي الإبل والعين والورق ، وعلى قوله في رواية كتاب الديات لا يتمكن من أدائها إلا من هذه الأنواع الثلاثة ( قوله وذكر في المعاقل أنه لو صالح على الزيادة على مائتي حلة أو مائتي بقرة لا يجوز ، وهذا آية التقدير بذلك ، ثم قيل هو قول الكل فيرتفع الخلاف وقيل : هو قولهما ) قال جمهور الشراح : أورد قوله وذكر في المعاقل : أي في معاقل المبسوط شبهة على ما روي عن أبي حنيفة من أنه لا تثبت الدية إلا من هذه الأنواع الثلاثة . ووجه ورودها أن محمدا ذكر في المعاقل أنه لو صالح الولي من الدية على أكثر من ألفي شاة أو من مائتي بقرة أو من مائتي حلة لا يجوز ولم يذكر الخلاف فيه ، وذلك دليل على أن الأصناف الثلاثة أيضا من الأصول المقدرة في الدية عنده أيضا ، وذكر الجواب بوجهين : أحدهما يصحح الشبهة ويرفع الخلاف .

وثانيهما يرفع الشبهة بحمل رواية المعاقل على أنها قولهما ، ثم إن صاحب العناية رد الوجه الأول منهما حيث قال : ولا أرى صحته لأنه يناقض رواية كتاب الديات كما مر آنفا انتهى . أقول : [ ص: 277 ] ليس هذا بشيء لأن مدار الوجه الأول على عدم قبول صحة رواية كتاب الديات وعدم تسليم ثبوت الاختلاف بينهم ، وكونه مناقضا لرواية كتاب الديات إنما ينافي صحته لو تحققت صحة تلك الرواية وهي في حيز المنع عند قائل ذلك الوجه ، يدل عليه قطعا عبارة صاحب النهاية حيث قال : فقال في جوابه بوجهين : أحدهما أنه صحح الشبهة فقال : نعم تلك الرواية أعني رواية الخلاف غير صحيح ، بل الصحيح رواية كتاب المعاقل .

والخلاف بينهم غير ثابت ، بل هذه الأنواع : أعني البقر والغنم والحلل في الدية من الأموال المقدرة انتهى . وتصحيح إحدى الروايتين ومنع الأخرى ليس بعزيز في كلمات الفقهاء وقد مر له نظائر كثيرة في الكتاب .

وقال بعض الفضلاء لدفع رد صاحب العناية : الوجه الأول يرتفع التناقض بالحمل على الرجوع إلى قولهما انتهى . أقول : هذا لا يصلح لدفع رده الوجه المزبور ، وإنما يصلح لأن يكون جوابا آخر عن أصل الشبهة لأن مآله إلى أن يكون في المسألة عنه روايتان ويكون المروي في إحداهما قوله الأول وفي الأخرى قوله الآخر الذي رجع إليه ، وقد ذكره أيضا صاحب العناية بعد بيان ذينك الوجهين ورد أحدهما حيث قال : وحمل بعض مشايخنا على أن في المسألة عنه روايتين انتهى . ومدار رده أحد ذينك الوجهين على أن يكون المراد به تقرير الشبهة ورفع الخلاف كما ذكره الشراح .

وذلك لا يتصور إلا بأن ينحصر القول منه في هاتيك المسألة فيما ذكر في المعاقل ، وإلا لا تتقرر الشبهة بل ترتفع بالحمل على القولين منه تفكر تفهم




الخدمات العلمية