الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن غصب مدبرا فجنى عنده جناية ثم رده على المولى فجنى عنده جناية أخرى فعلى المولى قيمته بينهما نصفان ) لأن المولى بالتدبير السابق أعجز نفسه عن الدفع من غير أن يصير مختارا للفداء فيصير مبطلا حق أولياء الجناية إذ حقهم فيه ولم يمنع إلا رقبة واحدة فلا يزاد على قيمتها ، ويكون بين ولي الجنايتين نصفين لاستوائهما في الموجب . قال ( ويرجع المولى بنصف قيمته على الغاصب ) لأنه استحق نصف البدل بسبب كان في يد الغاصب فصار كما إذا استحق نصف العبد بهذا السبب . [ ص: 368 ] قال ( ويدفعه إلى ولي الجناية الأولى ثم يرجع بذلك على الغاصب ، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله . وقال محمد رحمه الله : يرجع بنصف قيمته فيسلم له ) لأن الذي يرجع به المولى على الغاصب عوض ما سلم لولي الجناية الأولى فلا يدفعه إليه كي لا يؤدي إلى اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل واحد ، وكيلا يتكرر الاستحقاق . ولهما أن حق الأول في جميع القيمة لأنه حين جنى في حقه لا يزاحمه أحد ، وإنما انتقص باعتبار مزاحمة الثاني فإذا وجد شيئا من بدل العبد في يد المالك فارغا يأخذه ليتم حقه فإذا أخذه منه يرجع المولى بما أخذه [ ص: 369 ] على الغاصب لأنه استحق من يده بسبب كان في يد الغاصب .

التالي السابق


( باب غصب العبد والمدبر والصبي والجناية في ذلك ) ( قوله وقال محمد رحمه الله : يرجع بنصف قيمته فيسلم له ، لأن الذي يرجع به المولى على الغاصب عوض ما سلم لولي الجناية الأولى فلا يدفعه إليه كي لا يؤدي إلى اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل واحد ) قال تاج الشريعة جوابا عنه من قبل الإمامين : وهما يقولان ليس هذا عوض ما أخذه ولي الجناية الأولى حتى يجتمع البدل والمبدل في ملك رجل واحد ، بل هو عوض ما أخذه ولي الجناية الثانية فلا يجتمع البدل والمبدل في ملك واحد ا هـ .

أقول : فيه نظر ، لأن الذي يرجع به المولى على الغاصب كيف يصلح أن يكون عوض ما أخذه ولي الجناية الثانية والجناية الثانية في مسألتنا هذه وقعت عند المولى لا عند الغاصب ، فأنى يصح أن يأخذ المولى من الغاصب عوضا عما دفعه إلى ولي الجناية التي صدرت من مدبره حال كونه في يده ، والعهدة في مثل ذلك على ذي اليد دون غيره كما لا ريب فيه . وعن هذا فرق محمد بين هذه المسألة وبين المسألة الآتية التي هي عكس هذه المسألة حيث وافق الإمامين هناك كما ستطلع عليه . وقال صاحب العناية : والجواب أن المولى ملك ما قبضه من الغاصب ودفعه إلى ولي الجناية الأولى عوضا عما أخذه ولي الجناية الثانية دون الأولى فلا يجتمع البدل والمبدل في ملك شخص واحد ا هـ .

أقول : هذا قريب مما ذكره تاج الشريعة ، إلا أن في تقريره مساغ التخلص عما أوردناه على تقرير تاج الشريعة حيث اعتبر التعارض في جانب الدفع إلى ولي الجناية الأولى لا في جانب الرجوع على الغاصب تأمل تفهم .

ثم إن الأظهر في الجواب عما قاله محمد من الجمع بين البدل والمبدل ما ذكره جمهور الشراح وعزاه صاحب الغاية إلى الإمام قاضي خان حيث قال : وجوابه ما قال فخر الدين قاضي خان أن ما أخذه المولى من الغاصب هو بدل عن المدفوع إلى ولي الجناية الأولى من العبد فيما بين المولى والغاصب . وأما في حق ولي الجناية الأولى فلا يعتبر بدلا عن العبد بل يعتبر بدلا عن الميت ويكون الشيء الواحد بدلا عن عين في حق إنسان ، ويكون بدلا عن شيء آخر في حق غيره كالنصراني إذا باع الخمر وقضى منه دين المسلم يجوز ويكون المأخوذ بدل الخمر في حق النصراني وفي حق المسلم بدل دينه كذا هاهنا ا هـ .

( قوله ولهما أن حق الأول في جميع القيمة لأنه حين جنى في حقه لا يزاحمه أحد ، وإنما انتقص باعتبار مزاحمة الثاني إلخ ) قال في العناية : واعترض بأن الثانية مقارنة للأولى حكما فكيف يكون حق الأول في جميع القيمة ، والجواب أن [ ص: 369 ] المقارنة جعلت حكما في حق التضمين لا غير ، والأولى متقدمة حقيقة وقد انعقدت موجبة لكل القيمة من غير مزاحم وأمكن توفير موجبها فلا يمتنع بلا مانع ا هـ .

أقول : في الجواب بحث ، لأنا لا نسلم أن المقارنة جعلت حكما في التضمين لا غير بل جعلت حكما أيضا في حق مشاركة ولي الجناية الثانية لولي الجناية الأولى كما أرشد إليه قول المصنف في الفصل السابق ، لأن الثانية مقارنة حكما من وجه ولهذا يشارك ولي الجناية الثانية الأولى ا هـ .

فإذا جعلت المقارنة حكما في حق مشاركة ولي الجناية الثانية أيضا كان ولي الجناية الثانية مزاحما لولي الجناية الأولى في استحقاقه جميع القيمة ، فكيف يأخذ ولي الجناية الأولى وحده كل القيمة مع مزاحمة ولي الثانية له في استحقاقه إياه ، وإن كان الاعتبار لتقدم الأولى حقيقة دون المقارنة الحكمية ينبغي أن لا يستحق ولي الثانية شيئا من قيمة المدبر ، وليس الأمر كذلك بالإجماع فليتأمل في الجواب الشافي .




الخدمات العلمية