الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                      في الرجل يجعل عتق عبده في يده في مجلسهما

                                                                                                                                                                                      قلت : أرأيت إن قال لعبده : أعتق نفسك في مجلسك هذا ، فوض ذلك إليه . فقال العبد : قد اخترت نفسي ينوي العبد بذلك العتق ، أيكون حرا أم لا ؟

                                                                                                                                                                                      قال : إذا نوى العبد بذلك الحرية عتق لأن قوله هذا : قد اخترت نفسي ، هو من حروف العتق .

                                                                                                                                                                                      فقلت : ويجعل القول قوله إنه إنما أراد بذلك العتق ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم .

                                                                                                                                                                                      قلت : فإن لم ينو العبد بذلك الحرية فلا حرية له ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم لا حرية له إذا لم يرد بذلك الحرية .

                                                                                                                                                                                      قلت : فإن قال : أنا أدخل الدار ينوي بذلك العتق ؟

                                                                                                                                                                                      قال : هذا لا يكون بقوله : أنا أدخل الدار حرا ; لأن هذا ليس من حروف العتق .

                                                                                                                                                                                      قلت : فلو أن السيد قال لعبده : ادخل الدار ، وهو يريد بلفظه ذلك حرية العبد ؟

                                                                                                                                                                                      قال : هو حر عند مالك إذا أراد بذلك اللفظ عتق العبد .

                                                                                                                                                                                      قلت : ما فرق ما بين قول السيد لعبده : ادخل ، ينوي بذلك اللفظ حرية العبد ، وبين قول العبد : أنا أدخل الدار ، ينوي بذلك اللفظ حرية نفسه في هذا الذي فرض سيده إليه العتق ؟

                                                                                                                                                                                      قال : لأن العبد مدع في ذلك فلا يصدق لأنه لم يتكلم بالعتق ولا بحروف العتق ، فالسيد ههنا مصدق على نفسه والعبد لا يصدق في هذا على سيده وإنما مثل ذلك مثل رجل قال لامرأته : أمرك بيدك ، فقالت : أنا أدخل بيتي ، ثم جاءت بعد ذلك تدعي أنها أرادت الطلاق لم يقبل قولها .

                                                                                                                                                                                      قلت : فإن قالت المرأة أو قال العبد أما إذا لم تجز وأما ما كان من قولنا ذلك فنحن [ ص: 402 ] نطلق ونعتق الآن من ذي قبل ؟ قال : لا يكون ذلك إليهما ، قلت : وإن كان ذلك المجلس الذي فوض فيه الزوج والسيد إليهما ؟

                                                                                                                                                                                      قال : نعم ، لا يكون إليهما من ذلك شيء لأنهما قد تركا ذلك حين أجابا بغير طلاق ولا عتاق .

                                                                                                                                                                                      قلت : فإن سكتا حتى تفرقا ، أليس ذلك في أيديهما في يد المرأة وفي يد العبد ؟

                                                                                                                                                                                      قال : لا ، إلا في قول مالك الآخر وليس عليه جماعة الناس ولا أهل المدينة وليس ذلك رأيي .

                                                                                                                                                                                      قلت : فلم لا يكون عند مالك هذا العبد والمرأة أن تطلق وأن يعتق في ذلك المجلس إذا أبطلت قولهما الأول ؟

                                                                                                                                                                                      قال : لأنهما بالقول الأول تاركان لما جعل إليهما حين أجابت وأجاب العبد بجواب لم يلزم السيد ، فليس لهما بعد ذلك قضاء لا في قوله الأول ولا في الآخر عند مالك وفي السكوت هما على أمرهما عند مالك حتى يجيء من ذلك ما يعلم أنهما قد تركا ما كان جعل إليهما ، لأن مالكا سئل إذا كان يقول ذلك لهما ما كانا في مجلسهما ، فإن تفرقا فلا شيء لهما فقيل لمالك : فإن طال المجلس بهما فقال : إذا طال ذلك حتى يرى أنهما قد تركا ذلك أو يخرجان من الذي كانا فيه إلى كلام غيره ، يستدل بذلك على أنهما تركا لما كانا فيه بطل ما جعل في أيديهما من ذلك ، فهي إذا جاءت بجواب لا يلزم الزوج فهي بمنزلة من ترك ما كان لها من ذلك لأنها قد قضت بقضاء لا يلزم الزوج فليس لها أن تقضي بذلك ، ألا ترى أنها في قول مالك الآخر أن ذلك لها وإن قامت من مجلسها إلا أن توقفه أو تتركه يطؤها أو يباشرها أو نحو ذلك ، فيكون ذلك تركا لما في يديها من ذلك ، فكذلك إذا قضت بما لا يلزم الزوج في الذي جعل إليها فليس لها بعد ذلك في ذلك الأمر قليل ولا كثير .

                                                                                                                                                                                      قال ابن القاسم : ورأيي على قول مالك الأول وعليه جماعة الناس : أنهما إذا تفرقا ولم يقض بشيء فليس لها من بعد ذلك قضاء .

                                                                                                                                                                                      قال سحنون وقال غيره : إذا قال لعبد : عتقك في يديك .

                                                                                                                                                                                      فقال : فقد اخترت نفسي أو قال له : أمرك في يديك في العتق .

                                                                                                                                                                                      فقال له : قد اخترت نفسي : إنه حر وإن زعم أنه لم يرد بذلك العتق بمنزلة المرأة تقول : قد اخترت نفسي ، فهي طالق ، وإن قالت : لم أرد الطلاق . وإن قال العبد : أنا أدخل الدار أو أنا أذهب أو أخرج لا يكون هذا عتقا إلا أن يكون أراد بقوله بذلك العتق ، فإن كان أراد بذلك العتق فهو عتق ; لأن هذا من كلام يشبه أن يكون يريد به العتق

                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية