الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3012 ) فصل : وإذا اشترط المشتري في البيع صفة مقصودة مما لا يعد فقده عيبا ، صح اشتراطه ، وصارت مستحقة ، يثبت له خيار الفسخ عند عدمها ، مثل أن يشترط مسلما ، فيبين كافرا ، أو يشترط الأمة بكرا أو جعدة أو طباخة ، أو ذات صنعة ، أو لبن ، أو أنها تحيض ، أو يشترط في الدابة أنها هملاجة ، أو في الفهد أنه صيود ، وما أشبه هذا . فمتى بان خلاف ما اشترطه ، فله الخيار في الفسخ ، والرجوع بالثمن ، أو الرضا به ، ولا شيء له . لا نعلم بينهم في هذا خلافا ; لأنه شرط وصفا مرغوبا فيه ، فصار بالشرط مستحقا .

                                                                                                                                            فأما إن شرط صفة غير مقصودة ، فبانت بخلافها ، مثل أن يشترطها سبطة فبانت جعدة ، أو جاهلة ، فبانت عالمة ، فلا خيار له ; لأنه زاده خيرا . وإن شرطها كافرة فبانت مسلمة ، أو ثيبا ، فبانت بكرا ، فله الخيار ; لأن فيه قصدا صحيحا ، وهو أن طالب الكافرة أكثر ; لصلاحيتها للمسلمين وغيرها ، أو ليستريح من تكليفها العبادات . وقد يشترط الثيب ; لعجزه عن البكر ، أو ليبيعها لعاجز عن البكر . فقد فات قصده .

                                                                                                                                            وقيل : لا خيار له ; لأن هذين زيادة ، وهو قول الشافعي في البكر ، واختيار القاضي . واستبعد كونه يقصد الثيوبة ، لعجزه عن البكر ، وليس هذا ببعيد ، فإنه ممكن ، والاشتراط يدل عليه ، فيصير بالدليل قريبا . وإن شرط الشاة لبونا ، صح ، وبهذا قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : لا يصح ; لأنه لا يجوز بيع اللبن في الضرع ، فلم يجز شرطه .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه أمر مقصود يتحقق في الحيوان ، ويأخذ قسطا من الثمن ، فصح اشتراطه ، كالصناعة في الأمة ، والهملجة في الدابة . وإنما لم يحز بيعه مفردا ; للجهالة ، والجهالة تسقط فيما كان بيعا ، وكذلك لو اشتراها بغير شرط ، صح بيعها معه ، وكذلك يصح بيع أساسات الحيطان والنوى في التمر معه ، وإن لم يجز بيعهما مفردين . وإن شرط أنها تحلب كل يوم قدرا معلوما ، لم يصح ; لتعذر الوفاء به ; لأن اللبن يختلف ، ولا يمكن ضبطه .

                                                                                                                                            وإن شرطها غزيرة اللبن صح ; لأنه يمكن الوفاء به . وإن شرطها حاملا صح . وقال القاضي : قياس المذهب أنه لا [ ص: 116 ] يصح . لأن الحمل لا حكم له ; ولهذا لا يصح اللعان على الحمل ، ويحتمل أنه ريح .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه صفة مقصودة يمكن الوفاء بها ، فصح شرطه ، كالصناعة ، وكونها لبونا ، وقد بينا فيما قبل أن للحمل حكما ، ولذلك حكم النبي صلى الله عليه وسلم في الدية بأربعين خلفة في بطونها أولادها . ومنع أخذ الحوامل في الزكاة ، ومنع وطء الحبالى المسبيات ، وجعل الله تعالى عدة الحامل وضع حملها ، وأرخص لها الفطر في رمضان إذا خافت على ولدها ، ومنع من الاقتصاص منها ، وإقامة الحد عليها من أجل حملها . وظاهر الحديث المروي في اللعان ، يدل على أنه لاعنها في حال حملها ، فانتفى عنه ولدها ، وإن شرط أنها تضع الولد في وقت بعينه ، لم يصح وجها واحدا ; لأنه لا يمكن الوفاء به ، وإن شرط أنها لا تحمل ، لم يصح الشرط ; لأنه لا يمكن الوفاء به . وقال مالك : لا يصح في المرتفعات . ويصح في غيرهن .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه باعها بشرط البراءة من الحمل ، فلم يصح كالمرتفعات . وإن شرطها حائلا ، فبانت حاملا ، فإن كان ذلك في الأمة ، فهو عيب يثبت الفسخ به ، وإن كان في غيرها ، فهو زيادة لا يستحق به فسخا ، ويحتمل أن يستحق ; لأنه قد يريدها لسفر ، أو لحمل شيء لا يتمكن منه مع الحمل . وإن شرط البيض في الدجاجة ، فقد قيل : لا يصح ; لأنه لا علم عليه ، يعرف به ، ولم يثبت له في الشرع حكم ، والأولى أنه يصح ; لأنه يعرف بالعادة ، فأشبه اشتراط الشاة لبونا .

                                                                                                                                            وإن اشترط الهزار أو القمري مصوتا ، فقال بعض أصحابنا : لا يصح . وبه قال أبو حنيفة لأن صياح الطير يجوز أن يوجد . ويجوز أن لا يوجد . والأولى جوازه ; لأن فيه مقصدا صحيحا ، وهو عادة له وخلقة فيه ، فأشبه الهملجة في الدابة ، والصيد في الفهد . وإن شرط في الحمام أنه يجيء من مسافة ذكرها . فقال القاضي : لا يصح . وهو قول أبي حنيفة ; لأن فيه تعذيبا للحيوان ، والقصد منه غير صحيح .

                                                                                                                                            وقال أبو الخطاب : يصح ; لأن هذه عادة مستمرة ، وفيه قصد صحيح لتبليغ الأخبار وحمل الكتب ، فجرى مجرى الصيد في الفهد ، والهملجة في الدابة ، وإن شرط في الجارية أنها مغنية ، لم يصح ; لأن الغناء مذموم في الشرع ، فلم يصح اشتراطه ، كالزنى . وإن شرط في الكبش كونه نطاحا ، وفي الديك كونه مقاتلا ، لم يصح الشرط ; لأنه منهي عنه في الشرع ، فجرى مجرى الغناء في الجارية . وإن شرط في الديك أنه يوقظه للصلاة ، لم يصح ، لأنه لا يمكنه الوفاء به ، وإن شرط كونه يصيح في أوقات معلومة ، جرى مجرى اشتراط التصويت في القمري ، على ما ذكرنا .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية