الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3464 ) مسألة ; قال : ( ومن وجب عليه حق ، فذكر أنه معسر به ، حبس إلى أن يأتي ببينة تشهد بعسرته ) وجملته أن من وجب عليه دين حال ، فطولب به ، ولم يؤده ، نظر الحاكم ; فإن كان في يده مال ظاهر أمره بالقضاء ، فإن ذكر أنه لغيره ، فقد ذكرنا حكمه في الفصل الذي قبل هذا ، وإن لم يجد له مالا ظاهرا ، فادعى الإعسار ، فصدقه غريمه ، لم يحبس ، ووجب إنظاره ، ولم تجز ملازمته ، لقول الله تعالى { : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } . ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لغرماء الذي كثر دينه : { خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك . } ولأن الحبس إما أن يكون لإثبات عسرته أو لقضاء دينه ، وعسرته ثابتة ، والقضاء متعذر ، فلا فائدة في الحبس .

                                                                                                                                            وإن كذبه غريمه فلا يخلو ، إما أن يكون عرف له مال أو لم يعرف ، فإن عرف له مال لكون الدين ثبت عن معاوضة ، كالقرض والبيع ، أو عرف له أصل مال سوى هذا ، فالقول قول غريمه مع يمينه . فإذا حلف أنه ذو مال ، حبس حتى تشهد البينة بإعساره . قال ابن المنذر : أكثر من نحفظ عنه من علماء الأمصار وقضاتهم ، يرون الحبس في الدين ، منهم مالك والشافعي وأبو عبيد والنعمان وسوار وعبيد الله بن الحسن وروي عن شريح ، والشعبي . وكان عمر بن عبد العزيز يقول : يقسم ماله بين الغرماء ، ولا يحبس .

                                                                                                                                            وبه قال عبد الله بن جعفر ، والليث بن سعد ولنا أن الظاهر قول الغريم ، فكان القول قوله ، كسائر الدعاوى . فإن شهدت البينة بتلف ماله ، قبلت شهادتهم ، سواء كانت من أهل الخبرة الباطنة أو لم تكن ; لأن التلف يطلع عليه أهل الخبرة وغيرهم . وإن طلب الغريم إحلافه على ذلك ، لم يجب إليه ; لأن ذلك تكذيب للبينة ، وإن شهدت مع ذلك بالإعسار اكتفي بشهادتها ، وثبتت عسرته ، وإن لم تشهد بعسرته ، وإنما شهدت بالتلف لا غير ، وطلب الغريم يمينه على عسره ، وأنه ليس له مال آخر ، استحلف على ذلك ; لأنه غير ما شهدت به البينة .

                                                                                                                                            وإن لم تشهد بالتلف ، وإنما شهدت بالإعسار ، لم تقبل الشهادة إلا من ذي خبرة باطنة ، ومعرفة متقادمة لأن هذا من الأمور الباطنة ، لا يطلع عليه في الغالب إلا أهل الخبرة والمخالطة . وهذا مذهب الشافعي وحكي عن مالك أنه قال : لا تسمع البينة على الإعسار ; لأنها شهادة على النفي ، فلم تسمع ، كالشهادة على أنه لا دين عليه .

                                                                                                                                            [ ص: 292 ] ولنا ، ما روى قبيصة بن المخارق ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له { : يا قبيصة ، إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة : رجل تحمل حمالة ، فحلت المسألة حتى يصيبها ، ثم يمسك ، ورجل أصابته جائحة ، فاجتاحت ماله ، فحلت له المسألة ، حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش ، ورجل أصابته فاقة ، حتى يقول ثلاثة من ذوي الحجا من قومه : لقد أصابت فلانا فاقة . فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال : سدادا من عيش . } رواه مسلم وأبو داود . وقولهم : إن الشهادة على النفي لا تقبل . قلنا : لا ترد مطلقا ، فإنه لو شهدت البينة أن هذا وارث الميت ، لا وارث له سواه قبلت ، ولأن هذه وإن كانت تتضمن النفي ، فهي تثبت حالة تظهر ، ويوقف عليها بالمشاهدة ، بخلاف ما إذا شهدت أنه لا حق له ، فإن هذا مما لا يوقف عليه ، ولا يشهد به حال يتوصل بها إلى معرفته به ، بخلاف مسألتنا .

                                                                                                                                            وتسمع البينة في الحال ، وبهذا قال الشافعي وقال أبو حنيفة : لا تسمع في الحال ، ويحبس شهرا ، وروي ثلاثة أشهر ، وروي أربعة أشهر ، حتى يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال لأظهره .

                                                                                                                                            ولنا ، أن كل بينة جاز سماعها بعد مدة ، جاز سماعها في الحال ، كسائر البينات ، وما ذكروه لو كان صحيحا لأغنى عن البينة . فإن قال الغريم : أحلفوه لي مع يمينه أنه لا مال له ، لم يستحلف في ظاهر كلام أحمد لأنه قال ، في رواية إسحاق بن إبراهيم في رجل جاء بشهود على حق ، فقال الغريم استحلفوه : لا يستحلف ; لأن ظاهر الحديث : " البينة على المدعي ، واليمين على من أنكر " . قال القاضي : سواء شهدت البينة بتلف المال أو بالإعسار وهذا أحد قولي الشافعي ; لأنها بينة مقبولة ، فلم يستحلف معها ، كما لو شهدت بأن هذا عبده ، أو هذه داره .

                                                                                                                                            ويحتمل أن يستحلف . وهذا القول الثاني للشافعي لأنه يحتمل أن له مالا خفي على البينة . ويصح عندي إلزامه اليمين على الإعسار ، فيما إذا شهدت البينة بتلف المال ، وسقوطها عنه فيما إذا شهدت بالإعسار ، لأنها إذا شهدت بالتلف ، صار كمن لم يثبت له أصل مال أو بمنزلة من أقر له غريمه بتلف ذلك المال ، وادعى أن له مالا سواه ، أو أنه استحدث مالا بعد تلفه .

                                                                                                                                            ولو لم تقم البينة ، وأقر له غريمه بتلف ماله وادعى أن له مالا سواه ، لزمته اليمين ، فكذلك إذا قامت به البينة ، فإنها لا تزيد على الإقرار . وإن كان الحق يثبت عليه في غير مقابلة مال أخذه ، كأرش جناية ، وقيمة متلف ، ومهر أو ضمان أو كفالة ، أو عوض خلع ، إن كان امرأة ، وإن لم يعرف له مال ، حلف أنه لا مال له ، وخلى سبيله ، ولم يحبس . وهذا قول الشافعي وابن المنذر فإن شهدت البينة بإعساره ، قبلت ، ولم يستحلف معها ; لما تقدم .

                                                                                                                                            وإن شهدت أنه كان له مال ، فتلف ، لم يستغن بذلك عن يمينه ; لما ذكرناه . وكذلك لو أقر له به غريمه ، وإنما اكتفينا بيمينه ; لأن الأصل عدم المال ، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لحبة وسواء ابني خالد بن سواء { : لا تيئسا من الرزق ما اهتزت رءوسكما ، فإن ابن آدم يخلق وليس له إلا قشرتاه ، ثم يرزقه الله تعالى . } قال ابن المنذر : الحبس عقوبة ، ولا نعلم له ذنبا يعاقب به . والأصل عدم ماله ، بخلاف المسألة الأولى ، فإن الأصل ثبوت ماله ، فيحبس حتى يعلم ذهابه . والخرقي لم يفرق بين الحالين ، لكنه يحمل كلامه على ما ذكرنا ، لقيام الدليل على الفرق .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية